الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشوكاني قد ذكر قبل هذا الكلام هنا وفي مواضع أخرى التوجيه الصحيح الذي يبين عدم اللحن في هذه الكلمات ثم قال هنا بعد كلام :
وحكي عن عائشة أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية، وعن قوله تعالى: إن هذان لساحران. وعن قوله: والصابئون. في المائدة ؟ فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطأوا.اهـ
فقوله هنا: وحكي بالبناء للمجهول يفيد تضعيفه للرواية عنها، ويؤيد التضعيف أن هذا الأثر رواه عن هشام أبو معاوية الضرير، واسمه: محمد بن خازم التميمي.
وقد وثق العلماء حديثه عن الأعمش، لكنهم عابوا أحاديثه عن غير الأعمش وقالوا: إنها مضطربة ، فقال ابن خراش: هو في الأعمش ثقة وفى غيره فيه اضطراب.
وصرح الإمام أحمد بأن أحاديثه عن هشام بن عروة بالذات فيها اضطراب.
وهذا يفيد ضعف هذه الرواية، ويجعلها غير صالحة للاحتجاج.
وقد ذكر السيوطي في الإتقان: بأن معنى قولها أخطأوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز، قال: والدليل على ذلك مالا يجوز مردود بإجماع من كل شيء وإن طالت مدة وقوعه. اهـ.
وأما أثر أبان فقد رده القشيري ولا يصح الاعتراض عليه بالأثر المروي عن عثمان فقد بينا في الفتوى رقم: 96034أنه موضوع، وذكرنا من قال بذلك من العلماء.
وقد قال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن:
وهذه الآثار مشكلة جدا، وكيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد؟ ثم كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه؟ ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته؟ ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه؟ ثم كيف يظن بعثمان أنه ينهي عن تغييره؟ ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضي ذلك الخطأ وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف؟ هذا مما يستحيل عقلا، وشرعا، وعادة. وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم ،وأيضا فإنه لم يكتب مصحفا واحدا بل كتب عدة مصاحف، فإن قيل إن اللحن وقع في جميعها فبعيد اتفاقها على ذلك، أو في بعضها فهو اعتراف بصحة البعض، ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قط مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءة وليس ذلك بلحن .
الوجه الثاني: على تقدير صحة الرواية إن ذلك محمول على الرمز والإشارة ومواضع الحذف نحو الكتب والصابرين وما أشبه ذلك.
الثالث: أنه مؤول على أشياء خالف لفظها رسمها كما كتبوا ولا أوضعوا، و لا أذبحنه بألف بعد لا ،و جزاؤا الظالمين بواو وألف، و بأييد بيائن، فلو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا، وبهذا الجواب وما قبله جزم ابن أشته في كتاب المصاحف.
وقال ابن الأنباري في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك: لا تقوم بها حجة لأنها منقطعة غير متصلة، وما يشهد عقل بأن عثمان وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبين فيه خللا ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه، كلا والله، ما يتوهم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنه أخر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه، ومن زعم أن عثمان أراد بقوله أرى فيه لحنا، أرى في خطه لحنا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ، وإفساد الإعراب، فقد أبطل ولم يصب، لأن الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن متقنا لألفاظه، موافقا على ما رسم في المصاحف المنقذة إلى الأمصار والنواحي، ثم أيد ذلك بما أخرجه أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن مبارك، حدثنا أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها: لم يتسن، وفيها: لا تبديل للخلق، وفيها: فأمهل الكافرين. قال: فدعا بالدواة فمحا أحد اللامين فكتب: لخلق الله، ومحى فأمهل، وكتب فمهل ،وكتب لم يتسنه، ألحق فيها الهاء. قال ابن الأنباري: فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه ،وهو يوقف على ما كتب ويرفع الخلاف إليه الواقع من الناسخين ليحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده. انتهى.
وأما كلام ابن حزم فلعله يقصد به من يرى الاحتجاج بمذهب الصحابي، وقد تكلمنا علي الخلاف في حجيته وعلى بعض حياة الإمامين في الفتاوى التالية أرقامها :
26984، 35832، 121996، 39721، 72057، 58463.
والله أعلم.