الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يزيدك حرصا على طلب العلم، وتحريا للدليل، ثم اعلم أن كلامك يشتمل على جملة من المؤاخذات، ونحن نبينها لك ليزول عنك وجه الإشكال، ولتحصل لك وللقراء الفائدة بإذن الله.
أولاً: قولك: إنه لم يُنقل عن النبي أنه اقتصر على قراءة الفاتحة في ركعة غيرُ صحيح، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. متفق عليه، فهذا دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقتصر على الفاتحة في بعض الركعات.
ثانياً : قوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي. هو وإن كان أمراً ، والأمر ظاهرٌ في الوجوب، ولكن قد انعقد الإجماع على خلاف ظاهره، واتفق العلماء على استحباب أشياء كثيرة ثبتت بفعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وحين علم النبي صلى الله عليه وسلم المسيئ أفعال الصلاة اقتصر على أمره ببعض أفعال الصلاة دون بعض ، فحمل جمهور أهل العلم الأمر في قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي. على معنى الوجوب في الواجبات، والاستحباب في المستحبات بقرينة حديث المسيئ، وطال الأخذُ والرد بين العلماء في جعل حديث المسيئ أصلاً تُستفاد منه أركان الصلاة، وما عداه فيحكم بسنيته ، أو يُزاد عليه ما دل الدليل على وجوبه، غير أنهم لم يتنازعوا في حمل كثير من أفعاله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الاستحباب ، وقد بين هذا العلامة العثيمين رحمه الله في شرحه على بلوغ المرام، فقال ما عبارته: وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فإن فيه أشياء غير واجبة مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله بالإجماع ، فدل على أن هذا الحديث: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) يتوجه إلى الأمر الوجوبي فيما يجب ، والأمر الاستحبابي فيما يستحب. انتهى.
وقال القاري في المرقاة: وعنه أي عن مالك قال: قال لنا رسول الله: صلوا كما رأيتموني أصلي أي في مراعاة الشروط والأركان أو فيما هو أعم منهما. انتهى
وقال المباركفوري في المرعاة: قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي في مراعاة الشروط والأركان والسنن والآداب.
ثالثاً: كون القراءة بعد الفاتحة سنة غير فرض ، هو كالمجمع عليه بين أهل العلم ، فعن عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فِى كُلِّ صَلاَةٍ قِرَاءَةٌ، فَمَا أَسْمَعَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَاهُ مِنْكُمْ، وَمَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَمَنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ. متفق عليه واللفظ لمسلم.
قال النووي في شرحه: قوله ( ومن قرأ بأم الكتاب أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل ) فيه دليل لوجوب الفاتحة وأنه لا يجزي غيرها، وفيه استحباب السورة بعدها وهذا مجمع عليه في الصبح والجمعة والأولين من كل الصلوات وهو سنة عند جميع العلماء، وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة وهو شاذ مردود. انتهى.
وبما تقدم في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي ، تعلم أن مجرد الفعل لا يكفي في الدلالة على الوجوب ، فلا يكون ثم إشكال بحمد الله على الإفتاء باستحباب السورة بعد الفاتحة.
رابعاً: ما ذكرته من كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح في الركوع سبعاً مما لا نعلم له أصلا في السنة، وإيجاب التسبيحة في الركوع، والتسبيحة في السجود، هو مذهب الحنابلة، وذهب الجمهور إلى أن التسبيح في الركوع والسجود مستحب غير واجب، ولم يستدل الحنابلة على الوجوب بمطلق الفعل فحسب ، بل استدلوا بالأمر الوارد في حديث عقبة بن عامر وإن كان في سنده مقال. جاء في الدليل ممزوجاً بشرحه منار السبيل: [وقول: سبحان ربي العظيم مرة في الركرع، وسبحان ربي الأعلى مرة فى السجود] لقول حذيفة في حديثه: فكان - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم". وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" رواه الخمسة، وصححه الترمذي. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" رواه أحمد، وأبو داود. وابن ماجه. انتهى.
والله أعلم.