الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنشكر لك ثقتك بموقعنا ومتابعتك للفتاوى المنشورة به وحرصك على إسداء النصح للقائمين عليه، وبخصوص رسالتك نود أن ننبهك إلى بعض الأمور:
أولاً: إن أحكام الشرع ليست ملكاً لنا نطوعها كما نشاء حسب أهوائنا أو تصوارتنا الشخصية، فليس لأحد أن يحكم بالتحليل أو التحريم على شيء دون دليل شرعي، وإلا كان قائلاً على الله بغير علم، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ {النحل:116}.
فحين يقول القائمون على الفتوى بجواز أمر فإنهم لا يقولونه بناءاً على أهوائهم الشخصية وإنما لا بد أن يستند ذلك إلى أدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم الموثوق بهم.
ثانياً: اعلمي أن أحكام الله كلها رحمة وحكمة وعدل، فالذي شرع هذه الأحكام هو العليم الحكيم الخبير وهو أرحم بنا من آبائنا ومن أمهاتنا ومن أنفسنا، فهذه الأحكام هي التي تحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة على أكمل وجه، وإذا بدا للإنسان خلاف ذلك في حكم من الأحكام، فإنما هو لقصورعلمه، ولذلك فالمؤمن يثق دائماً بأن سعادته وفلاحه في الالتزام بشرع الله والرضا بحكمه، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ {المائدة:50}.
ثالثاً: القول بجواز فسخ الخطبة ليس فيه مجانبة للعدل والإنصاف، وإنما هو حكم موافق لقواعد الشرع والعقل، فهو حكم لا يختص الرجل دون المرأة وإنما هو حق مشترك لهما، فلكل منهما فسخ الخطبة، لأنه ربما ظهر لأحدهما في الآخر عيب لا يرضاه أو خلق ينفر منه، فلو أن امرأة تقدم إليها رجل فوافقت عليه، ثم تبين لها بعد الخطبة ما ينفرها منه كفظاظة خلقه أو دمامة شكله أو عدم عفته، فهل من العدل أن يكون إتمام الزواج واجباً عليها وفسخ الخطبة حرام؟.
رابعاً: إن الخاطبين أجنبيان عن بعضهما وكل منهما يبالغ في التجمل للآخر، والظهور بأحسن صورة والغالب أنهما يكونان في مرحلة الشباب حيث يغلب توهج المشاعر واندفاع العواطف، فالظن بهما في هذه المرحلة التغاضي عن الأخطاء وعدم رؤية العيوب، فإذا وجد بينهما نفور أو رغب أحدهما في ترك الآخر فالغالب أن ذلك يستند إلى أسباب قوية، ولذلك فإن المنع من فسخ الخطبة يعني تكثير فرص الطلاق، ولا شك أنه لا وجه للمقارنة بين أضرار فسخ الخطبة وأضرار الطلاق.
خامساً: إن الخاطب حكمه بالنسبة للمخطوبة ـ ما دام لم يعقد عليها ـ لا يختلف عن حكم أي فتاة أجنبية عنه، فلا يحل له الخلوة بها ولا لمس بدنها، بل ولا الحديث معها لمجرد الاستمتاع والتشهي، وإنما ينبغي أن يكون للحاجة والمصلحة المعتبرة شرعاً في حدود الاحتشام والجدية والبعد عن كل ما يثير الفتنة، وما يحدث من تهاون في هذا الأمر هو سبب لكثير من البلايا وهو الذي يدفع بعض الشباب إلى دخول البيوت والتغرير بالفتيات، فينبغي أن نلقي باللائمة على هذه التجاوزات وليس على القول بجواز فسخ الخطبة.
سادساً: إن الشرع قد وضع حدوداً وآداباً لعلاقة الرجل بالمرأة تحفظ كرامة المرأة وتصون عرضها وتحمي المجتمع من الفساد الأخلاقي، وتحافظ على طهارته وحين يحدث تعدٍ لهذه الحدود فإن الشريعة لا تفرق بين الرجل والمرأة في الإثم والعقوبة وتنظر إليهما على حدٍ سواء، وما يكون في بعض المجتمعات من التفريق بين الرجل والمرأة في هذا الأمر والتهوين من إثم الرجل، هو سلوك مخالف للشرع نشأ من شيوع الجهل وغياب منهج الإسلام.
سابعاً: نحن في منهج التعامل مع الأخطاء لا نفرق بين الرجل والمرأة، وعلى النقيض مما ذكرته من تساهلنا في حق الرجال بعثت إحدى الأخوات إلينا تعترض على تساهلنا مع أخطاء النساء، وانظري لذلك في الفتوى رقم: 103781، والحق أننا لا نتساهل مع أحد منهما وإنما نسعى لاتباع منهج النبوة الوسط حيث لا إفراط ولا تفريط ولا نقنط أحداً من رحمة الله وعفوه مهما كان ذنبه.
ثامناً: إن الفتوى ليست كالقضاء فنحن لا نحكم وإنما نفتي طبقاً لما يرد إلينا في السؤال، وحين نصف شخصاً بوصف أو نحكم عليه بحكم بناء على قول السائل فإنا نقيد ذلك بكون الأمرعلى ما قال السائل ولا نملك إلا ذلك، أما القضاء فهو الذي يجب فيه السماع من طرفي الخصومة.
تاسعاً: إننا مع القول بجواز فسخ الخطبة نقول بأنه خلاف الأولى وننصح السائل بعدم الفسخ ما لم يكن هناك سبب يرجح مصلحة الفسخ، وانظري على سبيل المثال الفتاوى التالية أرقامها: 33413، 7237 .
عاشراً: اعلمي أن الله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا وهو خير له، فإذا فسخت خطبة الفتاة ورأت في ذلك مصاباً جللاً على ما وصفت في عتابك، فإنها ترجع إلى حصن الصبر فتلوذ به، مستشعرة أن في هذا الخير لها فترضى وتسلم لقضاء الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التغابن:11}.
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. تفسير ابن كثير. ويقول ابن القيم: والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً. الفوائد.
والله أعلم.