الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما حدث بين أبيك وبين هذا الرجل يعتبر من كنايات النكاح، وأهل العلم قد اختلفوا في انعقاد النكاح بالكناية فمنهم من منع ذلك ولم ير انعقاد النكاح إلا باللفظ الصريح، ومنهم من أجاز انعقاده بالكنايات التي تدل على التمليك كلفظ البيع والهبة ونحوها، جاء في الحاوي في فقه الشافعي: وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز النكاح إلا باسم التزويج أو النكاح، قال الماوردي: النكاح لا ينعقد إلا بصريح اللفظ دون كنايته، وصريحه لفظان زوجتك وأنكحتك فلا ينعقد النكاح بالكناية كانعقاده بالصريح، ذكر فيه مهر أو لم يذكر.
وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بالكناية كانعقاده بالصريح، فجوز انعقاده بألفظ البيع والهبة والتمليك، ولم يجزه بالإحلال والإباحة، واختلف الرواة عنه في جوازه بلفظ الإجارة ـ وسواء ذكر المهر أو لم يذكره.
وقال مالك: إن ذكر مع هذه الكتابات المهر صح وإن لم يذكره لم يصح. انتهى بتصرف.
وجاء في البحر الرائق: أما انعقاده بلفظ النكاح والتزويج فلا خلاف فيه، وأما انعقاده بما وضع لتمليك الأعيان فمذهبنا، لأن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح. انتهى بتصرف.
وقد بينا مذاهب العلماء في ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 60397، 80017، 97800.
والذي نراه راجحا أن النكاح ينعقد: بالكناية وبكل ما يدل على الرضا من الطرفين ولا يتعين له لفظ معين، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية قال: رحمه الله ـ في معرض رده على من قصر صيغة النكاح في لفظي النكاح والتزويج: وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا، فإن من أصله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل فهو لا يرى اختصاصها بالصيغ، ومن أصله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح لا تفتقر إلى إظهار النية، ولهذا قال بذلك في الطلاق والقذف وغير ذلك. انتهى.
ولكن انعقاده بالكناية مقيد بوجود النية أو قرائن الحال، أما قرائن الأحوال فهي منتفية في حالتك هذه، لأن الغالب أن العقد يدعى إليه الناس والشهود ويضرب عليه بالدف ونحوه مما يشهره، وهذا كله لم يتحقق في الحالة المسؤول عنها.
بقي بعد ذلك النظر في النية، فإن كانت نية هذا الرجل قد اجتمعت مع نية أبيك لإنشاء العقد بهذا الكلام، فإن النكاح قد انعقد بهذا، وإن كان ينقصه الشهود وهذا يمكن تداركه بالإشهاد عند البناء على ما ذهب إليه المالكية، أما إذا لم توجد نية فلا نكاح أصلا.
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله: وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما، فإن الحكم مبني على مقدمتين: أحدهما: إنما نسمي ذلك كناية وأن الكناية تفتقر إلى النية ومذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة ويقوم مقام إظهار النية، ولهذا جعل الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح، ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح من اجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا، فإذا قال بعد ذلك ملكتكها بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح، وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده أملاكا وملاكا انتهى
وأما قول أمك له أعطيناها لك فلا عبرة به البتة، لأنها لا تملك من أمر زواجك شيئا، وفي النهاية ننبه على أن الوالدين لا يجوز لهما أن يمنعا ابنتهما من الزواج بمن تريد ما دام الخاطب صاحب دين وخلق إلا لسبب معتبر وكونه متزوجا بامرأة أخرى ليس مانعا من تزويجه.
والله أعلم.