الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأصل في النهي أنه للتحريم حتى تأتي قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة، قال ابن عبد البرـ رحمه الله: النهي حكمه إذا ورد أن يتلقى باستعمال ترك ما نهى عنه والامتناع منه، وأن النهي محمول على الحظر والتحريم والمنع حتى يصحبه دليل من فحوى القصة والخطاب، أو دليل من غير ذلك يخرجه من هذا الباب إلى باب الإرشاد والندب. انتهى.
وقد جعل كثير من العلماء كون النهي في باب الأدب قرينة صارفة له من التحريم إلى الكراهة، وذلك لأن كثيرا من النواهي في هذا الباب قد انعقد الإجماع على أنها ليست للتحريم، وكثير منها حمله الجمهورعلى التنزيه، فطرد هذا الفريق من العلماء القاعدة وأجروا النهي في هذا الباب مجرى واحدا فحملوه على الكراهة والتنزيه، وعللوا ذلك بأن ما كان من باب حسن العشرة والمخالقة بالتي هي أحسن، أو من باب التصرف فيما يملكه الإنسان، أو من باب حسن الهيئة ونحو ذلك ممّا ليس حكمه تعبديا محضا يناسب حمله على الكراهة، وممّن رجح هذا القول العلامة ابن عثيمين، فقد قال ـ رحمه الله: سلك بعض العلماء مسلكا جيدا وهو أن الأوامر تنقسم إلى قسمين:
• أوامر تعبدية.
• وأوامر تأديبية، من باب الآداب ومكارم الأخلاق.
فما قصد به التعبد فالأمر فيه للوجوب، والنهي للتحريم، لأن الله خلقنا لعبادته، وما قصد به التأدب فإن الأمر فيها أمرإرشاد لا إلزام، والنهي فيها للكراهة لا للتحريم، إلا إذا ورد ما يدل على الوجوب فهو للوجوب. انتهى.
وقد نص كثير من العلماء على مثل هذا في ثنايا كلامهم ممّا يدل على أن هذه القاعدة مستعملة بكثرة وأنها ممّا قد يتبين به وجه التفريق بين أنواع النواهي، ومن ذلك قول الحافظ في الفتح: في كلامه على باب النهي عن الاستنجاء باليمين، قوله: باب النهي عن الاستنجاء باليمين أي باليد اليمني وعبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له، هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ أو أن القرينة الصارفه للنهي عن التحريم لم تظهر له وهي أن ذلك أدب من الآداب، وبكونه للتنزيه قال الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم. انتهى.
وقال النووي ـ رحمه الله ـ في كلامه على حكم القران بين التمرتين: واختلفوا فى أن هذا النهى على التحريم أو على الكراهة والأدب، فنقل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم، وعن غيرهم أنه للكراهة والأدب، والصواب التفصيل، فإن كان الطعام مشتركا بينهم فالقران حرام إلا برضاهم، وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به، فلا يحرم عليه القران، ثم إن كان فى الطعام قلة فحسن ألا يقرن لتساويهم، وإن كان كثيرا بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقا التأدب فى الأكل وترك الشره. انتهى.
وهو واضح جدا في التفريق بين نوعي النهي، وأن ما كان للأدب فإنه يحمل على الكراهة، وأن وجه ذلك ما فيه من حسن العشرة والإحسان إلى الأصحاب، ونرى حافظ المغرب وهو أبو عمر ابن عبد البر ـ والذي قدمنا كلامه في أن النهي ظاهر في التحريم حتى تأتي القرينة ـ يفرق بين ما كان من باب الآداب وغيره، ويبين وجه الفرق، فقال ـ رحمه الله: ونهيه صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل واحدة نهي أدب لا نهي تحريم، والأصل في هذا الباب أن كل ما كان في ملكك فنهيت عن شيء من تصرفه والعمل به فإنما هو نهي أدب، لأنه ملكك تتصرف فيه كيف شئت ولكن التصرف على سنته لا تتعدى، وهذا باب مطرد ما لم يكن ملكك حيوانا، فتنهى عن أذاه، فإن أذى المسلم في غير حقه حرام، وأما النهي عما ليس في ملكك إذا نهيت عن تملكه أواستباحته إلا على صفة ما في نكاح أو بيع أو صيد أو نحو ذلك، فالنهي عنه نهي تحريم فافهم. انتهى.
وإلى هذا المذهب يشير كلام الشافعي ـ رحمه الله ـ وهو واضع علم الأصول، فقد قال في رسالته ما لفظه: ولم يكن أمْرُه أن يأكل مِن بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام إذا كان مباحاً له أن يأكل ما بين يديه وجميعَ الطعام: إلاَّ أدَبًا في الأكل من بين يديه، لأنه أجملُ به عند مُوَاكِلِه وأبعَدُ له من قُبْح الطَّعْمَة والنَّهَم وأَمَره ألا يأكل من رأس الطعام، لأن البركة تنزل منه له على النظر له في أن يُبارَك له بَرَكَةً دائِمة يدوم نزولها له وهو يبيحُ له إذا أكل ما حوْلَ رأس الطعام أن يأكل رأسه.
وإذا أباح له المَمَرَّ على ظهر الطريق فالممرُّعليه إذْ كان مُباحاً، لأنه لا مالِكَ له يمنع الممر عليه فيحرُم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يُثْبِت نظراً له فإنه قال: فَإِنَّهَا مَأْوَى الهَوَامِّ وَطُرُقُ الحَيَّاتِ.
على النظر له لا على أن التعريس محرَّم وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق مُتَضايقاً مسْلوكا.
وبهذا يتبين لك أن هذا التفريق بين النوعين من النواهي جار في كلام كثير من العلماء وأن وجه هذا التفريق هو ما عرفناك سابقا من المعنى الذي اقتضى حمل كثير من النواهي الواردة في باب الأدب على الكراهة.
والله أعلم.