الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحجاب فريضة رب العالمين، وهدي سيد المرسلين، وقد أمر الله تعالى بالحجاب في آيات كثيرة فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ {الأحزاب:59}. وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ {الأحزاب:53}
والعبد لا يكمل إسلامه إلا بامتثاله لأمر ربه ورضاه به تصديقا لقوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {النساء: 65} .
فإذا ثبت عندك أن الحجاب هو شريعة رب الأرباب فكيف تكرهينه أم كيف تضيق نفسك به, وأنت تعلمين علم اليقين أن الله هو أحكم الحاكمين وأن أحكامه كلها صادرة عن علم محيط وحكمة بالغة, وأن عقول البشر لا تحيط بحكمته ولا تبلغها.
ومع هذا فإن الحجاب فيه من العفة والكرامة والصيانة وموافقة الفطرة السليمة والأخلاق الفاضلة ما لا يخفى على أحد, وكفى المرأة المتحجبة أنها التزمت أمر ربها وأرضته, وخالفت الشيطان وعصته, وصانت نفسها عن ضعاف النفوس وسفهاء الناس وهملهم, وكفى المتبرجة هوانا وخسرانا أنها أغضبت ربها وأسخطته, وأطاعت الشيطان واتبعته, وبذلت جسدها سلعة رخيصة يقلبها ضعاف النفوس في الطرقات ظهرا لبطن وهل بعد هذا خزي ومهانة, نسأل الله العافية والسلامة.
أما ما تذكرين مما يفتح على المتبرجات من أبواب الرزق من عمل وزواج ونحو ذلك، فهذا من مكر الله بهن واستدراجه لهن قال تعالى : فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {الأنعام: 44}
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {الأعراف: 182 ، 183}, جاء في تفسير الألوسي: واستدراجه تعالى إياهم بإدرار النعم عليهم مع إنهماكهم في الغي، ولذا قيل : إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.
ثم إن ما تذكرين من تفضيل الناس للمرأة المتبرجة على المحجبة غير مسلّم، فإن أهل الإيمان والطاعة لا يرضون بالمرأة المتبرجة زوجة أبدا, بل إن كثيرا من أهل الانحراف والعصيان لا يرضون أيضا بالمرأة المتبرجة زوجة، وإنما يرضون منها بالابتذال ليتمتعوا بالنظر إليها في الشوارع –والعياذ بالله - أما أن يرضوا بها زوجة فلا لما يعلمونه من عدم استقامتها وقلة حيائها, ولا يضعون ثقتهم الحقيقية إلا في المرأة الصالحة المحتشمة.
وإن كنا لا ننكر أن هناك من يتزوج المتبرجة ويفرح بها، ولكن هؤلاء غالبا ما يدفعون ضريبة ذلك بسبب شؤم المعصية وسوء عاقبتها والعياذ بالله, ومن تأمل حال أكثر هؤلاء وجد أنما فرحهم يقتصر على فترة التعارف والخطوبة وأياما بعد الزواج قليلة، ثم ينزل بهم بعد ذلك بأس الله بصور شتى، وغالبا ما يكون في صورة خلافات كبيرة وشقاقات واسعة تشتت شمل أسرتهم وتمزقها تمزيقا, وكثيرا ما ينتهي الأمر بهم إلى الطلاق أو أن يعتزل الرجل زوجته دون طلاق على أن يعيش كل منهم حياة بائسة نكدة, ثم إن قدر لهما ولد فغالبا ما ينشأ على العقوق والعصيان وقلة الدين والحياء, وصدق الله تعالى إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}, وقد قال الله سبحانه: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {النساء: 123}
ورحم الله ابن الحاج حيث قال وهو يتحدث عن المعاصي التي يقع فيها الزوجان وما ينتج عنها من الآثار السيئة: لا جرم أن التوفيق بينهما قل أن يقع وإن دامت الألفة بينهما فعلى دخن وإن قدر بينهما مولود فالغالب عليه إن نشأ العقوق وارتكاب ما لا ينبغي، كل ذلك بسبب ترك مراعاة ما يجب من حق الله تعالى منهما معا. انتهى
ثم إذا افترضنا جدلا أن الأمر على ما تقولين، وأن المرأة المتبرجة هي التي يتيسر لها أمور الدنيا من عمل وزواج ونحوه, فماذا بعد ذلك، وماذا يغني عنها المال والزوج وقد أغضبت ربها وأسخطته, وهل يدفع ذلك عنها شيئا إذا أرادها الله بمصيبة في الدنيا من مرض ونحوه؟ وهل يدفع عنها ذلك حينما تنفرد في قبرها وحيدة فريدة بعد موتها؟ وهل يغني ذلك شيئا عنها عندما تلقى الله يوم القيامة وقد حاربته بنعمه واستعملت ما وهبها الله من جمال وزينة في معصيته وإغواء خلقه ؟
والتي تزعم أنها ستترك الحجاب إلى أن تتزوج ثم تلبسه بعد ذلك لا شك أنها جاهلة مغرورة، وهذا من تلاعب الشيطان بها وإلا، فمن ضمن لها أن تعيش إلى أن تتزوج, ثم من ضمن لها بعد الزواج أن توفق للحجاب وقد تركته أول الأمر, وترك امتثال الأمر أول مرة قد يكون سببا في الخذلان فلا يلتزم به صاحبه أبدا كما قال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {الأنعام: 110} , ثم إذا وفقت للحجاب فمن ضمن لها على ربها أن يغفر لها ما كان منها من إثم التبرج والسفور.
فاتقي الله أيتها السائلة وانظري بعين البصيرة وراقبي نهايات الأمور ومآلاتها، واعلمي أن كل ما في الكون إنما يجري بتدبير الله وقدره , وأنه لا تستجلب المعاصي ولا تستدفع النقم بمثل طاعة الله وتقواه, قال الله جل وعلا : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 2 ، 3}, قال ابن تيمية رحمه الله: قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم } وقوله : ( مخرجا ) عن بعض السلف: أي من كل ما ضاق على الناس. انتهى
وقال سبحانه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {نوح : 10 – 12}
ونوصيك بكثرة التضرع إلى الله ودعائه والإلحاح عليه أن يصرف عنك السوء والفتن، وأن يحبب إليك الإيمان ويزينه إلى قلبك، ومن آثار ذلك أن يحبب الحجاب إليك، وأكثري من التوبة واستغفار الله سبحانه. نسأل الله أن يهديك سواء السبيل.
والله أعلم.