الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن السائل لم يبن لنا شبهة الحرام هذه حتى يكون الجواب مطابقا لحالته، ولكنا نقول: إنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات واقع الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه. متفق عليه.
والشبهات تختلف بحسب قوتها وضعفها: إذ من الشبهات ما يجب اجتنابها فتلحق بالحرام، ومنها ما يكره اجتنابها فالورع عنها ورع الموسوسين، كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان أخذه وملكه، وهذا وسواس، ومنها ما يستحب اجتنابها ولا يجب وهو الذي ينزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. ونحمله على نهي التنزيه. إحياء علوم الدين.
فإذا كان المال المشتبه لا يحرم الانتفاع به وإنما يستحب تركه، فمن باب أولى ألا يحرم الانتفاع بمجرد ظن وجود الشبهة، وعلى ذلك فإن انتفعت به فلا حرج عليك، وإن صرفته على المحتاجين وفي المصالح العامة فهو أفضل، ثم اعلم: أن الورع له أول، وهو الامتناع عما حرمته الفتوى وهو ورع العدول، وله غاية وهو ورع الصديقين وذلك هو الامتناع من كل ما ليس له مما أخذ بشهوة أو توصل إليه بمكروه أو اتصل بسببه مكروه، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان العبد أشد تشديداً على نفسه كان أخف ظهراً يوم القيامة، وأسرع جوازاً على الصراط، وأبعد عن أن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت درجات النار في حق الظلمة بحسب تفاوت درجات الحرام في الخبث، وإذا علمت حقيقة الأمر فإليك الخيار، فإن شئت فاستكثر من الاحتياط وإن شئت فرخص، فلنفسك تحتاط، وعلى نفسك ترخص. والسلام. إحياء علوم الدين, للغزالي.
والله أعلم.