الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق لنا الجواب عن أصل هذه الشبهة في أجوبة سابقة، وهنا نود التنبيه على أصل المسألة، وهو أن أعداء الإسلام لما حاربوه وأيقنوا أنه لا قِبل لهم بمواجهته بالسيف، توجهوا لهدمه من الداخل. ومن المعلوم أن الطعن في القرآن أو في النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، لا يمكن أن يقوض بناء الدين من الداخل، لأن التشكيك في ذلك من الكفر البواح والباطل المستبين الذي لا يقبله أحد من المسلمين، فكان سبيل هؤلاء المبطلين هو الطعن في نقلة الدين وحامليه إلى من بعدهم، وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد وافق ذلك عند المبلطين هوى، حيث إن هؤلاء الصحابة هم الذين هزموا قوى الشرق والغرب، وهدموا معاقل الشرك والكفر، خاصة صرح المجوس الذي لم تقم له بعد ذلك قائمة.
فحقيقة الطعن في الصحابة الكرام إنما هو هدم الدين ولكن من داخله وبأيدي المنتسبين إليه.
قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله: إذا رأيت الرجل يطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن القرآن عندنا حق والسنة عندنا حق، وإنما نقل لنا القرآن والسنن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. اهـ.
وهذا ما صرح به كاتب هذا المقال الأثيم، حيث قال: المؤمن العاقل لا يأخذ سنن نبيّه ومعالم دينه من طريق المرتدين وأهل البدع والمتقامحين في النار .
ومعلوم أن القرآن نفسه إنما نقله إلينا هؤلاء الصحابة الكرام. وهذا يوضح لنا علة التركيز على الطعن في الصحابة ولعنهم وتكفيرهم، مع أنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من قرون متطاولة، فالعلة هي ما أسلفنا من زعزعة أركان هذا الدين، بهدم طرق وصوله إلينا، وإلا فما الحاجة إلى هذا الطعن ؟
يقول الدكتور ناصر القفاري: وأي فائدة اليوم في اللعن والسب والتكفير الذي ملأوا به كتبهم وأسواقهم ومزاراتهم، وقد انقضى العصر الأول بكل ما فيه؟! لا هدف في الحقيقة إلا الطعن في القرآن والسنة والدين بعامة، وإلا إثارة الفتنة وتفرقة الأمة. وماذا يبقى من أمجادنا وتاريخنا إذا كان أولئك السادة القادة الأتقياء الأصفياء الأوفياء الرواد الذين نشروا الإسلام وأقاموا دولته، وفتحوا البلاد وأرشدوا العباد، وبنوا حضارة لم تعرف لها الدنيا مثيلاً، إذا كان هؤلاء الرواد الأوائل لكل معالم الخير والعدل والفضائل يستحقون اللعن من أحفادهم، وتشويه تاريخهم، وهم الذين أثنى الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسجل التاريخ الصادق مفاخرهم بمداد من نور. فمن الذي يستحق الثناء والمديح؟ وأين أمجادنا وتاريخنا إذا كان أولئك كذلك؟ اهـ.
وأما بالنسبة لخصوص هذه الشبه المذكورة، فنزيد هنا على ما سبق ما يأتي:
أولا: إن المراد بالأصحاب هنا هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كما قال الله تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.{المنافقون: 1}.
وهم من المنافقين الذين لم يكن يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال جل وعلا: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ. {التوبة: 10}.
فهؤلاء من المنافقين الذين كان يظن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أصحابه ولم يكونوا كذلك.
ثانيا: المراد بهم الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ارتد كثير من العرب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: المراد المعنى العام، أي: كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يتابعه، فلا يدخلون تحت المعنى الاصطلاحي لكلمة صحابي. ويدل على هذا أن رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول لما قال: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ.{المنافقون: 8}. نقل لعمر هذا الكلام فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. رواه البخاري. فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، ولكن على المعنى اللغوي لا على المعنى الاصطلاحي؛ لأن عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وكان ممن فضحه الله تبارك وتعالى وممن أظهر نفاقه جهرة.
رابعا: قد يراد بكلمة أصحابي كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطريق ولو لم يره، ويدل على هذا رواية: "أمتي" أو "إنهم أمتي".
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أعرفهم » فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه يعرف هذه الأمة، فقيل له: يا رسول الله كيف تعرفهم ولم ترهم؟ فيقول: إني أعرفهم من آثار الوضوء. رواه مسلم. ويؤكد هذا فهم ابن أبي مليكة راوي الحديث عندما قال: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا. وهو من التابعين .اهـ من كتاب (حقبة من التاريخ).
ومما يلاحظ على هذا المقال إيهام صاحبه أن أهل الردة الذين قاتلهم المهاجرون والأنصار مع أبي بكر الصديق هم مانعو الزكاة، ليخلص من ذلك إلى أنهم ليسوا هم المعنيين بهذه الأحاديث التي ذكرها. وليس هذا بصحيح، فأعتى حروب الردة كانت مع مدعي النبوة وأتباعهم، من أصحاب مسيلمة وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وسجاح، فهؤلاء كانوا أكثر المرتدين عددا وأقواهم شوكة.
وكان قتالهم وقتال مانعي الزكاة من المناقب التي اختص الله بها أبا بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار، وعليه يُؤوَّل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. {المائدة: 54}. فكان هؤلاء القوم هم أبو بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار. وكل من يعرف تفاصيل حروب الردة لا يشك في ذلك، ومن ذلك ما ذكره المؤرخون عن إنفاذ أبي بكر لبعث أسامة وتصديه للمرتدين.
قال ابن كثير: فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة ومانعي الزكاة على ما سيأتي تفصيله، قال سيف بن عمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة. وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم. فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. وقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في وحش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها. اهـ. وراجع في ذلك الفتويين: 73349، 63728. وبهذا يُعلم أي الطائفتين ينبغي أن تحمل عليها الأحاديث الواردة في المقال.
ومن مزيد العجب أن صاحب المقال ذهب إلى أنه لا يمكن حمل هذه الأحاديث على مانعي الزكاة، وعلل ذلك بأن ألفاظها تدل على أن ذلك الارتداد (كان ارتدادا باقيا مستمرا في أولئك المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ارتداد مانعي الزكاة في أيام أبي بكر لو سلّم لم يستمر؛ لأن أبا بكر وأعوانه قتلوهم فلم يبق هناك ارتداد بعد ذلك فلا يمكن انصراف تلك الأحاديث إليهم) !!
فإذا عُرف ما قدمناه من أن المرتدين في الأصل هم مدعو النبوة وأتباعهم، انهدمت قاعدة بنائه، وذلك أن الردة بدعوى النبوة باقية إلى قيام الساعة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين يدي الساعة قريب من ثلاثين دجالين كذابين كلهم يقول: أنا نبي، أنا نبي. رواه البخاري وأحمد واللفظ له.
وأما الاستدلال بقوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. {آل عمران : 144}. على ارتداد الصحابة، وأن الله تعالى وبخهم على ذلك قبل حصوله وهم أحياء فهذا مما لا ينقضي منه العجب، فالآية تتناول ما حصل في غزوة أحد كما هو معروف.
قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد، وقُتِل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قُتل. ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم: قتلتُ محمدًا. وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَشَجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ . أي: له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه .. ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ. أي: رجعتم القَهْقرى. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا، وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع أن الصدّيق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأس هؤلاء الشاكرين. وكذلك كان المهاجرون والأنصار الذين وقفوا معه في وجوه المرتدين، وبذلك تكون هذه الآية إحدى مناقبهم لا دليلا على ردتهم رضي الله عنهم.
قال السعدي: في هذه الآية أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين. اهـ.
ومن عجائب هذا المقال حمله لحديث " إني ممسك بحجزكم عن النار " على عمر بن الخطاب؛ لمجرد أنه راويه، وأنه كان ضمن جماعة سمعوا هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه الذين هم أهل النار، وأنه قد علم بذلك هو وأصحابه هؤلاء، وأن أحد هؤلاء وهو عمر بن الخطاب حدث الناس بما يفيد أنه من أهل النار، وسمعه الناس ونقلوه، ومع ذلك عظموه وجعلوه أميرا عليهم وكفى بهذا الفهم الرديء خزيا وفضيحة. والصواب الذي يراه كل ذي عينين أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني بذلك جميع الأمة التي بعث إليها، وأنه يُصوِّر حال من أبى الإسلام من هذه الأمة، كنحو قوله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى. رواه البخاري. ويؤيد هذا أن البخاري روى هذا الحديث عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها. متفق عليه. ويؤكد هذا أن في رواية عمر نفسها: فأعرفكم بسيماكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله. ومثل هذا لا يصح إطلاقه في حق عمر وأمثاله، وإنما يصح في حق من لم يرهم النبي صلى الله عليه وسلم أو رآهم ولم تطل صحبتهم له، خاصة وأن هذه الرواية لفظها: "فأقول: أي رب قومي، أي رب أمتي". ولم يقل: أصحابي.
وعلى أية حال فتفصيل هذا الموضوع لا بد من الرجوع فيه إلى الكتب المعنية ببيان عقيدة أهل السنة في الصحابة تفصيلا، وبيان الشبهات التي يثيرها أهل البدع في ذلك.
والله أعلم.