الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فدفع الأذى عن المصلين أمر مطلوب، وقد خفف الشرع في بعض الأحكام مراعاة لذلك، كالإبراد بالصلاة، أي تأخيرها إلى وقت البرد، فإنه رخصة.
جاء في الموسوعة الفقهية: وهو مستحب في صلاة الظهر في شدة الحر صيفا في البلاد الحارة لمريد الجماعة في المسجد باتفاق؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم. متفق عليه. انتهى.
وحكمة ذلك كما قال النووي في المجموع: أن الصلاة في شدة الحر والمشي إليها يسلب الخشوع أو كماله فاستحب التأخير لتحصيل الخشوع. انتهى.
وقال ابن القيم في الوابل الصيب: حكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى. اهـ.
ولا يخفى أن تكييف المساجد إنما هو لهذا الغرض نفسه، فينبغي أن يكون بالطريقة التي تحصل بها المنفعة دون مضرة بقدر الإمكان، فيراعى في كميتها وقوتها ما يتناسب مع هذا الغرض، ولا يخفى أن هذا يختلف بحسب فصول السنة، كما يختلف بحسب طبائع الناس وعاداتهم وما نشؤوا عليه، ويختلف كذلك من مكان إلى مكان من حيث شدة الحر واعتداله، فلا بد من مراعاة هذه الجوانب والموازنة بين المصالح والمفاسد، وتقدير هذه الأمور إنما يرجع للقائمين على المسجد، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 27484.
وقد ذكر الدكتور حمد بن إبراهيم الحيدري في بحثه -مجالات الوقف ومصارفه في القديم والحديث- المقدم لندوة الوقف في الشريعة الإسلامية ومجالاته، تحت البند الثامن من مجالات الوقف ومصارفه العصرية: تكييف المساجد وتهويتها، فقال: وذلك بسبب تغير حياة الناس وحاجتهم إلى آلات التهوية والتكييف العصرية، وهذا مما يعين على الخشوع في الصلاة وعدم الانشغال عنها بسبب الحر والبرد، وقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الصلاة تكره في محلٍ شديد الحر أو البرد لأنه يذهب الخشوع الذي هو لب الصلاة. انتهى.
ثم ينبغي أن يراعى في مثل هذه الأمور ما يصلح لأغلب الناس، فإن العبرة بالغالب والنادر لا حكم له.
جاء في (أبحاث هيئة كبار العلماء): الشريعة الإسلامية تعنى بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وتتخذ في سبيل هذا الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فترتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما، وتؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في حال التعارض، وتؤثر درء المفاسد على جلب المصالح. انتهى.
وإذا ثبت أن شخصاً ما يتضرر بهذه المكيفات بسبب مرضه مثلا، وأبى الناس إلا وضعها وتشغيلها، ولم يكن هناك من جوانب المسجد ما لا يصل إليه ما يضره من هواء المكيفات، ولم يمكنه أن يتفق مع أهل المسجد على توقيف عمل المكيفات في جانب معين من جوانبه ليصلي فيه من يتضرر بها -فهذا معذور في عدم إتيانه للمسجد- فقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. {التغابن:16}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. رواه البخاري ومسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
وقد وُجِّه السؤال التالي للجنة الدائمة للإفتاء: أنا مصاب بحساسية شديدة في الجهاز التنفسي، وأحس بألم أحيانا، وتزعجني وسائل التكييف، ويوجد مسجد يبعد عن منزلي بحوالي خمسة كيلو متر تقريبا، وفي آخر المسجد لا تشغل أجهزة التكييف، هل يباح لي أن أصلي في آخر المسجد الذي لا تشغل فيه أجهزة التكييف أنا وأولادي، ونصف بصف منفصل عن الصفوف، ونتابع مع الإمام إذا أقيمت الصلاة؛ لعله أفضل من الصلاة في المنزل لسبب ظروفي الصحية، ونحصل بذلك على فضيلة الصلاة مع الجماعة بإذن الله؟ فأجابت: إذا كان الواقع ما ذكرت من حالتك المرضية وليس بقربك مسجد يخلو من التبريد الذي يؤثر عليك، فلا بأس أن تصلى في المكان الذي ليس فيه تبريد داخل المسجد المذكور، لكن لا بد أن يكون معك من يزول به الانفراد؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.(التغابن:16). انتهى.
والله أعلم.