الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن المعلوم أن مما يسلي به المرء نفسه ويعزيها عند المصائب، أن يُذكرها بأن اعتراضها على قضاء الله لن يزيدها إلا هما وغما، ولن تزيد به المشكلات إلا عقدا وكربا، ولذلك يقال: من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم. وفي معنى ذلك ما يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور.
ومثل هذا لا يصح أن يسمى رضا، وإنما هو صبر بحبس النفس عن الجزع والتسخط، وإنما الرضا ـ كما يقول ابن القيم ـ سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل فيرضى به. اهـ.
وشتان بين المنزلتين، فالصبر واجب، وأما الرضا فمستحب على الراجح، والمقصود أن نصوب للسائل سؤاله، فيكون: (حكم من يصبر على القضاء لكي يعيش سعيدا، هل يؤجر؟) والجواب: نعم، يؤجر، طالما أنه لم يخلط صبره بما ينقضه كالجزع والتسخط. وعلى ذلك تدل إطلاقات وعمومات الكتاب والسنة، كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر: 10}وقوله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة. رواه مسلم.
ثم ننبه السائل الكريم إلى أن المصائب تختلف آثارها على الناس بحسب إيمانهم وطباعهم، وبحسب هذا الأثر تكون المرتبة والمنزلة، ومجمل هذه المراتب ثلاثة، قال ابن القيم في (مدارج السالكين): مراتب الناس في المقدور ثلاثة: الرضا وهو أعلاها، والسخط وهو أسفلها، والصبر عليه بدون الرضا به وهو أوسطها، فالأولى للمقربين السابقين، والثالثة للمقتصدين، والثانية للظالمين، وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به، فالرضا أمر آخر، وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم وظن أنهما متباينان، وليس كما ظنه فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به، والصائم في شهر رمضان في شدة الحر متألم بصومه راض به، والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها، فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به. اهـ.
وقال في (زاد المعاد): ومن علاجها ـ يعني المصائب ـ: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاختر خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو في فعل محرم كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر، كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه، وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله، كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضا عن الله كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه، كتب فى ديوان المحبين المخلصين اهـ.
والله أعلم.