الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أولا أن الحد الواجب في القراءة هو أن يُسمع المصلي نفسه ولا يكون بغير ذلك قارئا عند الجمهور، وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الواجب يتحقق بإخراج الحروف من مخارجها ولو لم يسمع المصلي نفسه، وانظر الفتوى رقم: 114664، ولا يلزم من إسماع النفس القراءة أن يكون في ذلك تشويش على المصلين، بل ليس لمن يصلي مأموما أن يرفع صوته بالقراءة في الفاتحة بحيث يشوش على من بجواره، بل عليه أن يلتزم الحد الأدنى في القراءة وهو إسماع نفسه، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه لمن سأله عن القراءة حين يكون خلف الإمام: اقرأ بها في نفسك يا فارسي. خرجه أبو داود وغيره.
هذا إذا كانوا يرفعون أصواتهم حال كونهم مأمومين كما هو الظاهر، وأما إذا كانوا يرفعون أصواتهم بالقراءة بحيث يشوشون على من بجوارهم في حال الصلاة فرادى فهم منهيون أيضا عن ذلك لما فيه من الأذية.
قال ابن رجب رحمه الله: وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.
وفي رواية: فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة. خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد. انتهى.
وأما استدلالهم بالآية فهو استدلال في غير محله، فإن سبب نزول الآية يدل على أنها ليست فيما نحن فيه. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. {الإسراء: 110}. الآية، قال الإمام أحمد:
حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية وهو متوار بمكة. وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا. {الإسراء: 110}. قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا تُخَافِتْ بِهَا عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا. أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس، به، وكذا روى الضحاك عن ابن عباس، وزاد: فلما هاجر إلى المدينة، سقط ذلك، يفعل أي ذلك شاء. انتهى.
وقد دلت السنة على مشروعية الجهر في مواضع كالجهر في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء والجمعة ونحو ذلك، ودلت على مشروعية المخافتة في مواضع أخرى، فالمتعين الوقوف مع السنة وألا يتمسك بنصوص لا دلالة فيها على المطلوب ولم يستنبط منها العلماء هذه الاستنباطات.
والله أعلم.