الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اتفقت الأمة على أن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه معصومون في تحمل الرسالة وتبليغها، ومعصومون أيضا من الوقوع في الكبائر، وأما الصغائر فالأكثر على أنهم ليسوا معصومين منها، وأنها إذا وقعت منهم فإنهم لا يقرون عليها، بل يتوبون ويكون حالهم بعدها أفضل مما قبلها، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 6901.
وأما التعرض بالكلام على ما هو من هذا الباب، فلا شك أن المسلم إذا تعرض للكلام عن جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يتحفظ ويتخير من الكلام ما يناسب الحال والمقام، ولا يكون كلامه في ذلك ككلامه عن بقية الناس، فقد قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا {النور: 63} وأمر سبحانه بتعزيره وتوقيره فقال: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {الفتح: 9}.
وللناس في ذلك أحوال ولهم فيه مراتب، فلا بد هنا من بيان معنى السب والتنقص للنبي صلى الله عليه وسلم وما يدخل فيه، قال القاضي عياض في الشفا: اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا يمترى فيه تصريحا كان أو تلويحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا. اهـ.
ثم بين رحمه الله ما يدخل في ذلك تفصيلا بذكر ستة أوجه، ومنها الوجه الخامس: أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا ولا سبا، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله صلى الله عليه وسلم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره، أو على التشبه به، أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو قصد الهزل والتنذير بقوله، كقول القائل: إن قيل في السوء فقد قيل في النبي، أو إن كذبت فقد كذب الأنبياء، أو إن أذنبت فقد أذنبوا، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم، أو كصبر أيوب، أو قد صبر نبي الله عن عداه وحلم على أكثر مما صبرت. اهـ.
ثم قال رحمه الله في بيان ما لا يدخل في سب النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنقصه، وهو الوجه السابع: أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أو يختلف في جوازه عليه وما يطرأ من الأمور البشرية به ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه ومر عليه من معاياة عيشته، كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم، فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة إذ ليس فيه غمص ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحققون فوائده ويجنب ذلك من عساه لا يفقه أو يخشى به فتنته. اهـ.
وبهذا يتبين أن الكلام عن قصة عبد الله ابن أم مكتوم ونحوها مما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وطرأ عليه من الأمور البشرية العارضة، إنما يكون حكمه بحسب الداعي إليه، وبحسب مقصد المتكلم، وأن ذلك ينبغي على كل حال أن يقتصر في نقله على من يحسن فهم الكلام وتلقيه.
ولا بد من التنبه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان بشرا، فإنه لا يجوز في حقه من الصفات البشرية إلا ما لا يقتضي منقصة ولا عيبا، ومن هذا قصة نزول قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى. كما سبق بيانها في الفتوى رقم: 38915.
وأخيرا ننبه على أنه ليس في هذه القصة زلل باللسان أصلا، وإنما محل العتب قاصر على عبوس الوجه والإعراض عن ابن أم مكتوم؛ انشغالا بدعوة غيره من كبراء المشركين الذين يرجى بإسلامهم كفاية وإعزاز للملة.
والله أعلم.