الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهنيئا لك توبتك وإقلاعك عن هذه المحرمات. ونسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمته وهدايته، وأن يفيض عليك من فضله ورحمته.
ثم اعلم أخي الكريم أن ما ذكرته في مطلع كلامك بقولك: (عدم ضيق صدري بل انشراح صدري لما أسمعه). ليس موافقا للواقع، بل هذا نفسه من الوسوسة التي يريد الشيطان أن يحزنك بها، وكل ما ذكرته في كلامك يدل على ذلك، فأنت بحمد الله كاره تمام الكره لهذه الوساوس، وخائف منها خوفا حقيقيا، ونفورك منها ظاهر جلي .. تنبئ بهذا كل عبارات سؤالك، ابتداء من وصفك لهذه الوساوس بالسوء، واعترافك أن مؤداها يستوجب عذاب الله والخلود في النار. ومن ذلك قولك: (يا رب أنا بريء مما تحدثني به نفسي). ووصف حالك حين سماع ذلك بقولك: (قلبي ينقبض وأحس أني مخنوق .. ) الخ .
وشيء آخر لابد من التنبه له، وهو أن ما يشكوه السائل من السب إنما هو حديث نفس ووسوسة صدر، دون نطق اللسان، وهذا معفو عنه بفضل الله تعالى، إذ لا طاقة للعبد على إزالة أصله ومنع مبدئه، وإنما يستطيع فقط مدافعته بعد حصوله، فالوسوسة وحديث النفس شيء يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، ومن فضل الله تعالى ورحمته أنه تجاوز عن ذلك ما لم يعمل به العبد أو يتكلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم.
قال النووي في (الأذكار): الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل. قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقر. قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفرا أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطران من غير تعمد لتحصيله ثم صرفه في الحال فليس بكافر ولا شيء عليه اهـ.
فإذا عرفت ذلك، فاعلم أن كره العبد وخوفه ونفوره من هذه الخواطر والوساوس الشيطانية، علامة على صحة الاعتقاد وقوة الإيمان.
فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ. وراجع في ذلك الفتويين: 7950 ، 12300.
ولذلك نلفت نظر السائل إلى خطأ اعتقاده أنه قد كفر، وكذلك ما يترتب عليه من الاغتسال للدخول في الإسلام. وقد سبق لنا التنبيه على سبل التخلص من الوسوسة وعلاجها في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 3086، 60628، 78372، 48325، 51601، 133954.
وأما قول السائل عن الله تعالى: (لماذا لم يساعدني ويخلصني مما أنا فيه). وقوله: (لماذا لم يعصمني وتركني ووساوسي .. ) ؟؟!! فحقيقة هذا السؤال إنما هو تمني زوال التكليف ولو جزئيا، أو الخروج عن حكمة خلق الإنسان، وذلك أن الله تعالى إنما خلقنا امتحانا واختبارا، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {الملك: 2} وقال سبحانه: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:3،2} وقال عز وجل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران: 179}
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء: 35}
ووعود الله تعالى للمؤمنين بالحياة الطيبة وإجابة الدعاء وحسن العاقبة لابد أن تتحقق ولكن بطريقة تتفق مع هذه الحكمة العظيمة، وقد سبق لنا بيان ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 117638.
ومن ناحية أخرى، فينبغي للأخ السائل إذا تفكر في ما يعانيه، أن يعلم أن البأس الذي يلاقيه، فيه كفارة لماضيه، وهذا لا شك أنفع له مما يبتغيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه. وراجع في هذا المعنى الفتوى رقم: 131252.
والله أعلم.