الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
وأما بالنسبة للحديث المذكور فقد رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله. قال: أنكتها ـ لا يكني ـ قال: فعند ذلك أمر برجمه.
وبأدنى تأمل بعد معرفة سبب تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الكلمة رغم أنه كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، سيتضح أن ذلك من مظاهر كمال الشريعة وعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ما كان يأخذه في الله لومة لائم، والذي طوع أخلاقه لموافقة مقاصد الشريعة، وذلك أن هذا التصريح كان في مقام إقامة حد القتل رجماً على ماعز، ولا يخفى أن التحري والتدقيق البليغ في التحقق من موجب إقامة مثل هذا الحد الشديد ـ مما يستحسن بل يلزم؛ صيانة للدماء وحفظا للأعراض، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في(الفتح) وتبعه المناوي في (الفيض): محل وجود الحياء منه صلى الله عليه وسلم في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا: أنكتها. لا يكني اهـ.
وقال الشوكاني في (النيل): في هذا من المبالغة في الاستثبات والاستفصال ما ليس بعده في تطلب بيان حقيقة الحال، فلم يكتف بإقرار المقر بالزنا بل استفهمه بلفظ لا أصرح منه في المطلوب، وهو لفظ النيك الذي كان صلى الله عليه وآله وسلم يتحاشى عن التكلم به في جميع حالاته، ولم يسمع منه إلا في هذا الموطن .. اهـ.
وقال المناوي في (التيسير) عند حديث "إذا أراد أحدكم من امرأته حاجته .. " قال: أي جماعها، كنى بها عنه لمزيد حيائه، وأمّا قوله لمن اعترف بالزنا: أنكتها. فللاحتياط في تحقق موجب الحدّ بحيث يكون اللفظ لا يقبل المجاز ولا التأويل اهـ.
وقال القرطبي في (المفهم): وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ لماعز بغاية النصّ الرافع لجميع الاحتمالات كلها؛ تحقيقًا للأسباب، وسعيًا في صيانة الدماء اهـ.
وإذا تبين هذا، ظهر أنه لا حرج في الاستحياء من هذه الكلمة التي هي محل السؤال، بل هذا هو الأصل الذي لا يقبل غيره، إلا من الحاكم أو القاضي في مثل هذا المقام، من الاعتراف بالزنا ونحوه مما يوجب القتل.
وأما مسألة تجنب إيراد هذا الحديث عند العامة فهذا يكون باعتبار فهمهم واستيعابهم، فإن كانت مدارك بعضهم لا تتسع لفهم مثل هذه المعاني والأحكام، فلا بأس بترك تحديثهم بذلك، بل هذا قد يكون الأفضل في بعض الأحيان، وقد سبق لنا تفصيل هذه المسألة في الفتوى رقم: 129154.
وأما مسألة ما قد يترتب على التحديث بمثل هذا الحديث من الفتن، فهذا إن حصل فلا يتحمله من حدث به على وجهه؛ إذ إنه فعل ما أمر به من البلاغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فبعض آيات القرآن قد استشكلها أعداء الإسلام وزادتهم كفرا على كفرهم، كما قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {المائدة: 68}
ومع ذلك فينبغي لمن حدث بمثل ذلك أن يبين فقهه بما يزيل اللبس والشبهة عن أذهان المستمعين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. فإن قصر في ذلك كان مسيئا.
والله أعلم.