الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن اقتصر في الاستنجاء على الأحجار أو ما في معناها كالمناديل الورقية فلا بد له من استيفاء ثلاث مسحات في قول كثير من أهل العلم وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فشرط حصول الاستجمار بالحجر وكونه مجزئا أمران: أحدهما الإنقاء، والثاني تكميل المسحات الثلاث، فإن لم ينق بالمسحات الثلاث وجب عليه أن يزيد حتى ينقي ثم يستحب له أن يقطع الاستجمار على وتر، وإن أنقى بما دون الثلاث وجب عليه تكميل المسحات الثلاث، ولا يجزيه ما دون ذلك ولا يكون بذلك مزيلا للنجاسة، وقد صرحوا بعدم إجزاء ما دون الثلاث كما قال في شرح المنتهى: ولا يجزئ في الاستجمار أقل من ثلاث مسحات إما بثلاثة أحجار ونحوها أو بحجر واحد له ثلاث شعب تعم كل مسحة المحل أي محل الخارج، لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات. رواه أحمد وهو يفسر حديث مسلم: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار. انتهى.
فمن صلى باستجمار لم يستوف فيه العدد المطلوب فصلاته غير صحيحة لأن النجاسة لم يحكم بزوالها، واجتناب النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة عند الجماهير، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة كما قدمنا، واستدلوا على ذلك بأحاديث صحيحة صريحة كحديث سلمان عند مسلم وفيه: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. وذهب مالك وداود إلى جواز الاقتصار على ما دون الثلاث إذا حصل الإنقاء لأن الإنقاء هو مقصود الشارع، وحملوا الأمر باستيفاء الأحجار الثلاثة على أن الإنقاء لا يحصل بدونها غالبا، وعلى مذهب الجمهور فإن من اقتصر على ما دون الثلاث لم يستنج الاستنجاء المأمور به شرعا، وهو كمن لم ينق المحل فإن كلا من استيفاء العدد والإنقاء شرط في إجزاء الاقتصار على الأحجار في الاستجمار، ومذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح لقوة أدلته وكثرتها، ونحن نسوق هنا طرفا من كلام النووي في المجموع فقد أجاد كعادته في تفصيل الخلاف وسياق الأدلة قال رحمه الله: مذهبنا وجوب ثلاث مسحات وإن حصل الانقاء بدونها وبه قال أحمد واسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود الواجب الانقاء فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لنا كما سبق وحكاه العبدرى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبه قال أبو حنيفة حيث أوجب الاستنجاء، واحتجوا بحديث أبي هريرة السابق: (من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج). قالوا ولأن المقصود الانقاء ولأنه لو استنجى بالماء لم يشترط عدد فكذا الحجر، واحتج أصحابنا بحديث سلمان وهو صريح في وجوب الثلاث وبحديث أبي هريرة (وليستنج بثلاثة أحجار) وهما صحيحان سبق بيانهما. وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه) وهو صحيح سبق بيانه في مسألة وجوب الاستنجاء وبحديث أبى هريرة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة). رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة. الرمة بكسر الراء العظم البالى، وبحديث خزيمة سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال (بثلاثة أحجار). رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ولم يضعفه أبو داود ولا غيره. وبحديث ابن مسعود (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني ان آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس). رواه البخاري هكذا.
ورواه أحمد والدارقطني والبيهقي في بعض رواياته زيادة فألقى الروثة وقال ائتنى بحجر. يعني ثالثا. وفي بعضها: ائتنى بغيرها. وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استجمر فليوتر). رواه مسلم.
وفى رواية لأحمد والبيهقي: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا).
قال البيهقى هذه الرواية تبين أن المراد بالايتار في الرواية الاولى ما زاد على الواحد، قال الخطابي في حديث سلمان: أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز وإن حصل الانقاء بدونها ولو كفى الانقاء لم يكن لاشتراط العدد معنى فانا نعلم أن الانقاء قد يحصل بواحد وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأنه يزيل العين والأثر فدلالته قطعية فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد وأما الحجر فلا يزيل الاثر وإنما يفيد الطهارة ظاهرا لا قطعا فاشترط فيه العدد. إلى آخر كلامه النفيس رحمه الله.
والله أعلم.