الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن أباكم – عفا الله عنه – قد وقع في بعض المخالفات الشرعية، ومنها ترك العدل بين أولاده وزوجتيه، وهذا واجب لا يسعه تركه بحال، كما بيناه مفصلا في الفتاوى التالية: 14254، 31514، 112748.
ولكن مع هذا فإنا نوصيكم بالصبر عليه والإحسان إليه بكل سبيل فإن بره – خصوصا حال مرضه وكبر سنه – من أعظم الطاعات، وعقوقه من أعظم الكبائر الموبقات، جاء في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله– صلى الله عليه وسلم – قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس.
والنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله في بر الوالدين وصلتهما والإحسان إليهما كثيرة مشهورة، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء: 22-24}.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله "من أبر؟ قال : أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب " حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. وقال صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال عليه الصلاة والسلام: رغم أنف رجل بلغ والداه عنده الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. رواه الترمذي وصححه الألباني.
ولا يتغير الحكم في ذلك حتى وإن فرط أبوكم في حقوقكم، فإن الله سبحانه قد أوجب الإحسان إلى الوالدين حتى وإن كانا كافرين يدعوان ولدهما إلى الكفر بالله وبرهان هذا قوله تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}، وما رواه مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قدمت علي أمي وهي مشركة راغبة أفأصل أمي، قال: نعم، صلي أمك.
وأما ما يطلبه منكم من أموالكم، فإن كان بحاجة إليها فيجب عليكم أن تسدوا جميع حاجته من مطعم ومشرب ومسكن وعلاج. قال ابن قدامة في المغني: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد. انتهى. وقال الشافعي في الأم: أجبر الولد على نفقة الوالد، والوالد على نفقة الولد في الحين الذي لا غنى لواحد منهما عن صاحبه. انتهى.
أما ما عدا ذلك مما ليس بحاجة إليه فلا يجوز له أخذ شيء من أموالكم إلا بطيب نفس منكم، وقد يتعلق بعض الآباء بما رواه ابن ماجه وصححه الألباني من قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم – أنت ومالُك لأبيك. ويتذرعون بذلك لأخذ أموال أبنائهم.
والحق أنه لا متعلق لهم بهذا الحديث وذلك لأن اللام في الحديث: ليست للملك بل للإباحة.
قال ابن القيم في" إعلام الموقعين": واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته انتهى. ومما يدل على أنها ليست للملك أن الابن يرثه أولاده وزوجته وأمه، فلو كان ماله ملكاً لوالده لم يأخذ المال غير الأب.
وليست الإباحة أيضا على إطلاقها، بل هي بشروط بيناها بالتفصيل في الفتوى رقم: 25339.
والله أعلم.