الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
ففيما ذكره السائل الكريم عن سبط ابن الجوزي وجه محتمل لبيان معنى هذه الروايات، فيكون المعنى: أن آمنة لم تجد في حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو معروف عند النساء من ثقل الحمل، ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن سعد عن الواقدي بإسناده عن وهب بن زمعة عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به آمنة كانت تقول: ما شعرت أني حملت به ولا وجدت ثقلة كما تجد النساء إلا أنني قد أنكرت رفع حيضتي.
وما رواه ابن سعد عن الزهري قال: قالت آمنة: لقد علقت به، فما وجدت له مشقة حتى وضعته.
فهذا وجه قريب محتمل لفهم هذه الروايات، ولكن الصالحي قد نقل كلام السبط ووهَّاه، وذكر وجها آخر لفهم هذه الروايات، فقال في ـ سبل الهدى والرشاد: قول آمنة: فلم أر حملا كان أخف علي منه.
يفهم منه أنها حملت بغيره صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما هو أصرح منه.
قال ابن سعد: أخبرنا عمرو بن عاصم أخبرنا همام عن إسحاق بن عبد الله، قال: قالت أم النبي صلى الله عليه وسلم: قد حملت الأولاد فما حملت أخف منه.
فلا يمتنع أن تكون آمنة أسقطت من عبد الله سقطا فأشارت بذلك إليه فتجتمع الروايات ـ إن قبلنا كلام الواقدي ـ بل جازف سبط ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - كعادته، فقال: أجمع علماء النقل على أن آمنة لم تحمل بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قولها: لم أحمل حملا أخف منه خرج على وجه المبالغة، أو على أنه وقع اتفاقا، كذا قال: ولا يخفى وهي كلامه، والذي جمعت به أقرب. هـ.
وأياً ما كان، فإن الاستدلال بكلام آمنة على وقوعها في الفاحشة، ليس من البهتان وفحش القول فحسب، بل هو دليل جلي وبرهان ظاهر على الغباوة وبلادة الفهم وسوء القصد، فإن الزنا وإن لم يكن يخلو منه مجتمع، إلا أن الاستعلان به لم يكن من شأن الحرائر، بل من شأن الإماء، كما قالت هند بنت عتبة لما سمعت قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ. {الممتحنة: 12}.
قالت: أو تزني الحرة؟!.
وهذه قريش، رغم عداوتها للنبي صلى الله عليه وسلم، والتماسها لكل منقصة في حقه، واتهامها له بكل ما يمكن ولو بالباطل، إلا إنهم لم يبلغوا في ذلك الطعن في نسبه، لعلمهم بصحته ونزاهته، ولذلك قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي لما هاجروا للحبشة: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. الحديث: رواه أحمد، وصححه الألباني.
ولذلك امتن الله بذلك عليهم فقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. {آل عمران: 164}.
قال السعدي: يعرفون نسبه وحاله ولسانه، من قومهم وقبيلتهم. هـ.
وأما هؤلاء النصارى الطاعنون: فإنما سهل عليهم هذا البهتان، لأنهم ألفوه من طعن اليهود في نسب نبي الله عيسى عليه السلام، وافترائهم على أمه العذراء البتول، ولأنهم لا ينزهون الأنبياء ـ فضلا عن غيرهم ـ عن هذه الفواحش، ففي كتابهم الذي يؤمنون به وصف للأنبياء بالزنا وشرب الخمر، ناهيك عن الإباحية الفاضحة التي ينسبونها لكتابهم المقدس !! حتى لقد جمع أحدهم بعض ذلك في بحث بعنوان ـ إباحيات الكتاب المقدس ـ وهو متوفر على موقع المكتبة الشاملة.
والخلاصة: أن هذا الطعن لا يمت إلى التحقيق العلمي بصلة، وإنما نشأ من الرغبة في الطعن لا غير.
والذي نقطع به أن كثيرا ممن يلوك هذا الافتراء المشين، يوقن في نفسه أنه كذاب، ولكنه الهوى يعمي ويصم ـ والعياذ بالله ـ قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. { البقرة: 146 }.
والله أعلم.