الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما القصة الأولى فقد ذكِرت في كتب الأخبار دون إسناد، فذكرها ابن قتيبة في عيون الأخبار، وابن الجوزي في صفة الصفوة وفي مناقب عمر، وابن دريد في (أماليه)، وابن حمدون في (التذكرة الحمدونية)، والآبي في (نثر الدر)، ويوسف بن عبد الهادي المبرد في (محض الصواب)، وذكرها كذلك ابن القيم في (إعلام الموقعين)، والخزاعي في (تخريج الدلالات السمعية)... ولم يذكر أحد منهم إسنادا، إلا إن بعضهم كابن قتيبة وابن الجوزي أسندوها إلى العتبي من حكايته، والعتبي هو محمد بن عبيد الله أبو عبد الرحمن الأموي، قال الذهبي في (السير): كان يشرب، وله تصانيف أدبيات وشهرة. مات: سنة 228 هـ. اهـ.
ومثل هذا بينه وبين عصر الصحابة مفاوز بعيدة!! على ما في متنها من النكارة، قال الدكتور حمزة المليباري في كتابه (نظرات جديدة في علوم الحديث): إن الأئمة النقاد على التزامهم بترك رواية الوضاعين والكذابين عموماً، بينما تساهل الآخرين من غير الحفاظ في جمع الموضوعات والغرائب والأباطيل وكتابتها وروايتها، ومن ثم أصبحت كتب التفاسير والسير والفضائل تفيض بالمنكرات والمفتريات، مما جعل الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى- يقول: ثلاثة علوم لا أصل لها: التفسير والتاريخ والملاحم. انتهى.. وهذه القصة يصدق عليها قول الإمام أحمد هذا!.
وأما القصة الثانية فمشهورة جدا، ويذكرها المؤرخون وأهل السير على أنها حقيقة ثابتة، على أننا لم نجد لها إسنادا قائما، بل إما أن نجدها غير مسندة، وإما أن نجدها من رواية الضعفاء والمتروكين كالواقدي. هذا مع اختلاف سياقها بين رواية وأخرى، والمشهور فيها غير ما ذكره السائل، وإنما هو ما ذكره ابن سعد في (الطبقات الكبرى) قال: قالوا: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية ولم يزل مسلماً حتى كان في زمان عمر بن الخطاب، فبينما هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلاً من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل؟! قال: لا. قالوا: فما تقطع يده؟! قال: لا، إنما أمر الله تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق! بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانياً وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانياً؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم؟ قال: لطمه رجل من مزينة. قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها. انتهى.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: رواه الواقدي عن معمر وغيره عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة، وهذا القول هو أشهر الأقوال. انتهى..
وينبغي هنا التنبيه على أن إسلام جبلة نفسه محل خلاف، ومن أثبتوا إسلامه اختلفوا في وقته، بين قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين قائل: إنه أقام على نصرانيته إلى أن شهد اليرموك مع الروم في خلافة عمر ثم أسلم بعد ذلك. وقيل: إن جبلة لم يسلم البتة وإنما سأل عمر أن لا يأخذ منه الجزية ويقبل منه الصدقة فامتنع عليه فلحق بالروم. ذكر ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق وقال: والأظهر أنه أسلم ثم تنصر. انتهى.
والله أعلم.