الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فشكر الله لك حرصك على الخير ورغبتك فيه، ولكن ثم نقاط نحب أن نبينها لك تعينك ـ إن شاء الله ـ على مقصودك وتكون فيها الفائدة لك، فأما سير السلف وأخبارهم فاستيعابها مما لا يسعنا وقد حفلت بذكر أخبارهم ومآثرهم كتب التراجم والرقاق فانظريها ومن أهمها سير أعلام النبلاء للذهبي.
أولا: القصور عن السلف مما لا بد منه، فإنه لا يكاد يوفق لما وفق له السابقون إلا أفراد من العالم، ومن ثم كان السابقون ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين على القول بأن الأولين هم سلف هذه الأمة، ولكن على المرء أن يبذل وسعه ويستفرغ طاقته في الاجتهاد في العلم والعمل ثم لا لوم عليه فيما عجز عنه، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وإذا كان المرء على طريق السلف سائرا على دربهم مقتفيا آثارهم فهو على خير وإن قصرت خطاه عن شأوهم، وقد قيل للحسن ـ رحمه الله: سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة ـ فقال: إذا كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.
فاحرصي على سلوك طريق السلف واتباع هديهم علما وعملا فإن ذلك خير ولا تلامين على ما لم تحصليه بعد بذل الوسع.
ثانيا: القصد القصد تبلغي، فسددي وقاربي، واكلفي من العمل ما تطيقين، واعلمي أن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، هذا هو ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم الحريص على الخير الراغب فيه، فالطريق هو أن يحرص العبد على الفرائض فلا يخل بشيء منها ثم يأخذ من النوافل ما تطيقه نفسه ويعلم أنه يداوم عليه حتى إذا ألفه واعتاده أخذ نفسه بغيره وهلم جرا، وهذا هو علاج الفتور الذي يعقب الجد والكسل الذي يتلو النشاط، قال الحافظ في شرح قوله: ولن يشاد الدين إلا غلبه: والمشادة بالتشديد المغالبة، يقال شاده يشاده مشادة إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته. انتهى.
وقال أيضا: قوله: فسددوا ـ أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل، قوله: وقاربوا ـ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه، قوله: وأبشروا ـ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما. انتهى.
ثالثا: طلب العلم يفتقر إلى تدرج ومرحلية ولا يمكن أن يؤخذ جملة، فعليك أن تبدئي بشيء من المتون المختصرة وشروحها السهلة التي تتناسب مع مستواك العلمي فإذا فرغت من شيء انتقلت إلى غيره، مع الحرص على تنظيم الوقت وتوزيعه على وظائف اليوم بحيث لا يحصل لك إخلال بشيء مما أنيط بك.
رابعا: اجتهدي في الدعاء واللجوء إلى الله تعالى أن يوفقك لما فيه رضاه، وأكثري من الاستغفار والتوبة من جميع الذنوب، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، واعلمي أن الخير كله بيد الله تعالى فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يدفع السيئات إلا هو فكوني على ثقة بفضله معلقة قلبك به لا بغيره متوكلة عليه في حصول ما ينفعك في دينك ودنياك.
خامسا: ترك فضول الطعام والمنام والمخالطة مما يحرص عليه من طلب معالي الأمور، ولكن لا ينبغي أن يفضي هذا إلى أن يضر العبد بنفسه، أو يحمل نفسه ما لا تطيق، أو يحملها على ما لا تألفه ويعلم أنها تنقطع ولا تفي بالمطلوب منها، فإن عاقبة هذا الانقطاع غير محمودة.
سادسا: لا ينبغي أن تصيبك الحسرة إذا قرأت سير السلف، بل ينبغي أن تبعثك على الفخر والاعتزاز بهؤلاء الآباء الأماجد ومحاولة الأخذ بما أخذوا به من أسباب العلم والعمل، فقراءة سير السلف من أعظم ما تنبعث به الهمم وتوقظ به العزائم.
سابعا: أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الحاثة على علو الهمة كثيرة، وحسب العاقل هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها. ذكره الألباني في الصحيحة.
وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه.
والله أعلم.