الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس في هذه الرواية ذكر للرشوة، والذي في الروايات المتعلقة بالقصة المذكورة في السؤال أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قبل هذا المال من معاوية، فلما أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد أفاد ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن قبوله لهذا المال لا يمكن أن يكون سبباً لبيعة لا يرى شرعيتها، وهي البيعة ليزيد ومعاوية حي، فإن ذلك يكون من البيعة لخليفتين، وأخبر ابن عمر أنه سيبايع يزيداً إن مات معاوية واجتمع الناس عليه وهذا ما حصل بعد ذلك بالفعل، وقد التزم ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ بهذه البيعة ليزيد، وإنما ذكر الحافظ ابن حجر رواية الإسماعيلي المذكورة في السؤال شرحاً لما يثبت ذلك، وهو ما رواه نافع، قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ـ وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه. رواه البخاري والبيهقي في السنن الكبرى، وقال: زاد فيه غيره: فلما مات معاوية واجتمع الناس على يزيد بايعه. انتهى.
وراجع في أسباب ترشيح معاوية ليزيد والانتقادات التي وجهت إلى معاوية بسبب ذلك كتاب الدولة الأموية للصلابي.
ثم إن سلمنا أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ دفع هذا المال على سبيل الرشوة، فليس معنى ذلك أنه صار ملعوناً عيناً، بل اللعنة جزاء فاعل ذلك إن جازاه الله، ولم يكن له من الموانع ما يصرف عنه ذلك، من التوبة السابقة والحسنات الماحية وغير ذلك، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 140058.
وهذا الكلام في حكم الرواية عن فاعل الكبيرة، أو مرتكب الحد، فإنها إن كانت بتأول واجتهاد، ولم تطعن في صدقه، لا تقدح في روايته، وإلا فهل ترد رواية مثل أبي بكرة الثقفي ـ رضي الله عنه ـ لكونه قد أقيم عليه حد القذف؟! وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {النور:4-5}.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 131805، 47533، 102548.
وعلى أية حال، فإننا نقول كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: وعلى كل تقدير، فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تدفع عقوبتها، من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك، وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم، والحكاية المعروفة عن المسور بن مخرمة وكان من خيار صغار الصحابة لما أتى معاوية وخلا به وطلب منه أن يخبره بجميع ما ينقمه عليه، فذكر له المسور جميع ما ينقمه عليه، فقال: ومع هذا يا مسور ألك سيئات؟ قال: نعم، قال: أترجوا أن يغفرها الله؟ قال: نعم، قال: فما جعلك أرجى لرحمة الله مني، وإني مع ذلك والله ما خيرت بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على غيره، ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك وأنا على دين يقبل من أهله الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات، فما جعلك أرجى لرحمة الله مني، قال المسور بن مخرمة: فخصمني. انتهى.
وراجع لتمام الفائدة الفتوى رقم: 120404.
والله أعلم.