الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا حرج عليك فيما فعلت من دفع اللقطة إلى صاحب المحل لينادي عليها ويعرفها؛ لكون ذلك أدعى إلى أن يعرفها صاحبها، جاء في المنتقى شرح الموطأ: ولو دفع الملتقط اللقطة إلى غيره يعرفها فضاعت فلا شيء على الملتقط قاله ابن القاسم.. وإنما جاز في اللقطة أن يخرجها عن يده لغيره ضرورة ولم يجز ذلك في الوديعة، لأن المودع دفع إليه الوديعة صاحبها ولم يرض إلا بأمانته فهو متعد إن دفعها إلى غيره، وأما اللقطة فلم يأخذها باختيار صاحبها فكانت حاله وحال من هو مثله في الأمانة سواء لأن صاحبها لم يعينه لحفظها..
وفي درر الحكام: ولكن يجوز أيضاً عدم أخذ اللقطة من المحل الذي وجدت فيه، وعند بعض العلماء هذا هو الأفضل، لأن صاحبه يفتش عليه في المحل الذي فقد منه ويجده ويظفر بماله. اهـ
وحسبك أنك لا تعلم كونه غير أمين فلا يعتبر دفعها إليه تفريطاً أو تعدياً.. هذا فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال.
وأما الشق الثاني منه عن كيفية تعريف اللقطة ومدة التعريف فقد ذكرنا في فتوى سابقة بالرقم: 28350 أن اللقطة من حيث قيمتها على ضربين:
أحدهما: ما تقل قيمته فيجوز أخذه والانتفاع به، وهذا كالسوط والحبل ورغيف الخبز وما شابه ذلك، فيملك بغير تعريف، لما روى جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. رواه أبو داود.
والآخر: ما تكثر قيمته كالذهب والفضة والمتاع والمال الذي تتعلق به نفس صاحبه في العادة، فيجوز أخذه ويجب تعريفه حولاً في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد والصحف ونحو ذلك، فإذا جاء طالبه فوصفه دفع إليه بغير بينة، لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق والفضة فقال: اعرف وكائها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه. متفق عليه.
ويمكن لملتقطها أن يتصدق بها عن صاحبها بعد تعريفها لما روى أبو وائل شقيق بن سلمة قال: اشترى عبد الله بن مسعود جارية من رجل بستمائة أو سبعمائة درهم فنشده سنة فلم يجده، فتصدق بها من درهم ودرهمين عن ربها، فإن جاء صاحبها خيره، فإن اختار الأجر كان له، وإن اختار ماله كان له ماله. ثم قال ابن مسعود: هكذا فافعلوا باللقطة. رواه الطبراني في الكبير.
ورواه البخاري معلقاً بلفظ: .. اشترى ابن مسعود جارية والتمس صاحبها سنة فلم يجده وفقد، فأخذ يعطي الدرهم والدرهمين، وقال: اللهم عن فلان، فإن أتى فلي وعلي. ووصله سعيد بن منصور بسند جيد كما في الفتح، قال الحافظ ابن حجر: فرأى ابن مسعود أن يجعل التصرف صدقة فإن أجازها صاحبها إذا جاء حصل له أجرها، وإن لم يجزها كان الأجر للمتصدق وعليه الغرم لصاحبها، وإلى ذلك أشار بقوله (فلي وعلي) أي فلي الثواب وعلي الغرامة.
وأما لو كان تعريف اللقطة يستدعي نفقة، فقد اختلف أهل العلم فيمن تلزمه تلك النفقة على أقوال لخصها الشيخ وهبة الزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته حيث قال: نفقات التعريف وما تحتاجه الضالة: إذا احتاج تعريف اللقطة إلى نفقة كأجور الإعلان في الصحف في عصرنا الحاضر مثلاً، فقد قال الحنفية والحنابلة: تكون تلك النفقة على الملتقط، لأن هذا أجر واجب على المعرف نفسه، فكان عليه كما لو قصد تملك اللقطة، ولأنه لو تولى الملتقط تعريف اللقطة بنفسه لم يكن له أجر على صاحبها، فكذلك إذا استأجر على التعريف لا يلزم صاحبها شيء. وقال المالكية: إن أنفق الملتقط على اللقطة شيئاً من عنده فيخير صاحبها بين أن يفتديها من الملتقط بدفع نفقتها، أو يسلم اللقطة لملتقطها مقابل نفقتها.. وقال الشافعية: بما أن تعريف اللقطة واجب على الملتقط على ما هو المعتمد، فإن الملتقط لا يلزمه بمؤنة التعريف إن أخذ اللقطة بقصد حفظها لمالكها، وإنما يرتبها القاضي من بيت المال أو يقترض على المالك. أما إن أخذ اللقطة لتملكها فيلزمه مؤنة التعريف سواء أتملكها أم لا، وهذا هو الرأي المعقول.
ولو كان مبلغ تعريفها أكثر من قيمتها فيمكن تعريفها بغير تلك الوسيلة الغالية، ولا ينحصر التعريف في الإعلان بالصحف أو عبر الإذاعات ونحوها، بل يمكن الإنشاد عليها في مظان وجود ربها مثل الأسواق والمساجد والأماكن العامة مما لا يستدعي نفقة؛ لأن إلزام صاحبها بنفقتها حينئذ يكون فيه إضرار به.. وتعريف اللقطة يكون بما تتعرف به دون ذكر تفاصيلها ومقدارها، وهكذا جاء في حاشية العدوي: ... التعريف يكون بموضع يرجو التعريف بها وهو الموضع الذي التقطت فيه وأبواب المساجد، وإذا عرفها لا يذكر جنسها، بل يقول: من ضاع له شيء. انتهى.. وأما حكم ترك الالتقاط فقد بيناه في الفتوى رقم: 18069.
والله أعلم.