الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أمور الدين وبه استحقت هذه الأمة الخيرية على سائر الأمم، قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ {آل عمران:110}.
وقد سبق أن بينا بعض ضوابط وشروط هذه العبادة العظيمة في الفتويين رقم: 9358، ورقم: 1048.
وإنا لنوصيك ـ أيها السائل بالصبر ـ على ما يصيبك من أذى جراء القيام بهذا الواجب العظيم ونذكرك بوصية لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {لقمان:17}.
قال ابن كثير: علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر. انتهى.
وفي تفسير الألوسي: وقال ابن جبير: واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول: إذا أمرت بمعروف، أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه. انتهى.
أما تأويل هذه الآية التي تسأل عنها وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {المائدة:105}.
فهذه لم يأت تأويلها بعد، جاء في التمهيد لابن عبد البر: وروي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة والتابعين ـ رحمهم الله ـ أنهم كانوا يقولون في تأويل قول الله عز وجل: عليكم أنفسكم ـ قالوا: إذا اختلفت القلوب في آخر الزمن وألبس الناس شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض وكان الهوى متبعاً والشح مطاعاً وأعجب كل ذي رأي برأيه فحينئذ تأويل هذه الآية. انتهى.
ولا شك أن هذا الوقت لم يأت بعد فما زال الناس ـ في زماننا هذا ـ بخير ولا زلنا نرى أثر الدعوة إلى الله سبحانه وأثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دخول الناس في دين الله واستجابتهم لأمره سبحانه وإقبالهم على الخير وانفضاضهم عن الشر وكل هذا ظاهر لا ينكر، فكيف نترك كل هذا الخير ونطالب الناس بالتزام بيوتهم وكف ألسنتهم؟! وهذه آفة خطيرة تنبه لها الصديق أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وحذر الناس من استعمال هذه الآية في غير وقتها، جاء في كتاب المعتصر من المختصر من مشكل الآثار: قول أبي بكر: تضعونها في غير موضعها ـ أراد به تستعملونها في غير زمنها، وإن زمنها الذي تستعمل فيه هو الزمن الذي وصفه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشني ـ ونعوذ بالله منه ـ وإن ما قبله من الأزمنة فرض الله فيه على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يهلك العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا رأوا المنكر بين أظهرهم فلم يغيروه عذب الله العامة والخاصة، ففي هذا تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون الزمان الذي ينقطع فيه ذلك، وهو الزمان الموصوف في حديث أبي ثعلبة الذي لا منفعة فيه بأمر بمعروف ولا بنهي عن منكر، ولا قوة مع من ينكره على القيام بالواجب في ذلك فسقط الفرض عنه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه ولا يضره مع ذلك من ضل هكذا يقول أهل الآثار. انتهى.
فها أنت ذا ترى أهل العلم قد وصفوا الزمان الذي يسقط فيه الأمر والنهي بأنه الزمان الذي لا ينفع فيه أمر أو نهي، وهذا ليس بزماننا قطعاً، فإن زماننا قد فتحت فيه أبواب الدعوة على مصراعيها في جميع المجالات ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، بل وبدأ الناس يثورون على الحكام الظلمة الجائرين وتسجل الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية في بلاد الإسلام وبلاد الكفر إقبال الناس على الإسلام ومسارعتهم إلى التزام أحكامه، فأين هذا من الزمان الموصوف في حديث أبي ثعلبة الخشني؟ وأما بخصوص سقوط الأمر والنهي بسبب الضرر فهذا قد بيناه في الفتوى رقم: 128990.
هذا مع التنبيه على أن الضرر الذي يسقط وجوب الأمر والنهي، إنما هو الضرر المعتبر الذي يتأذى به الناس عادة، أما مجرد الأذى اليسير كالجدال ونحوه فهذا لا يسقط وجوب الأمر والنهي، إذ أن جميع الواجبات الشرعية لا يخلو القيام بها عن مشقة معتادة.
والله أعلم.