الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يهدي هذا الرجل وأن يعافيه من هذا الداء الخطير، والذي ينبغي لكم فعله معه هو الاجتهاد في مناصحته، وأن تبينوا له بلين ورفق خطورة الكذب وأنه يجر على صاحبه شرا كثيرا في الدنيا والآخرة، وأن تذكروا له النصوص من الكتاب والسنة المحذرة من الكذب والمنفرة منه والآمرة بالصدق الحاثة عليه، وحسبه تنفيرا من الكذب وذما له قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
فهل يسره أن يكتب عند الله تعالى بهذا الوصف الذميم، ثم إن ما يعتقده من أن الراحة تحصل له بالكذب مجرد وهم، بل الصدق هو سبيل الراحة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن لزم الصدق اطمأن قلبه وانشرح صدره وهداه الله لأرشد أمره ووفقه لما يحب وجنبه ما يكره ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالصدق طمأنينة، لا يندم صاحبه أبدا، ولا يقول: ليتني وليتني؛ لأن الصدق منجاة، والصادقون ينجيهم الله بصدقهم، وتجد الصادق دائما مطمئنا؛ لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو شيء يحصل في المستقبل؛ لأنه قد صدق، و ((من صدق نجا)) .
أما الكذب، فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ريبة، ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسه، فيرتاب الكاذب: هل يصدقه الناس أو لا يصدقونه؟. انتهى.
بل الصادق إن حصل له ضرر عاجل بسبب صدقه فإن حلاوة عاقبة الصدق مما لا يقاس إليه هذا الضرر اليسير، كما أن الكاذب وإن استراح ظاهرا بسبب الكذب فإن مآل أمره إلى هم وغم عظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: وَالصَّادِقُونَ تَعِبُوا فِي الْعَاجِلَةِ بَعْضَ التَّعَبِ فَأَعْقَبَهُمْ صَلَاحَ الْعَاقِبَةِ وَالْفَلَاحَ كُلَّ الْفَلَاحِ، وَعَلَى هَذَا قَامَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَمَرَارَاتُ الْمُبَادِي حَلَاوَاتٌ فِي الْعَوَاقِبِ، وَحَلَاوَاتُ الْمُبَادِي مَرَارَاتٌ فِي الْعَوَاقِبِ. انتهى.
وخذ هذا الكلام النفيس للمحقق ابن القيم عليه الرحمة في فوائد قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لعلك تطلع عليه أباك فينتفع به إن شاء الله، يقول رحمه الله ما عبارته: وَمِنْهَا:-أي من فوائد القصة- عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ، فَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَهُ إِلَّا بِالْكَذِبِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ. فَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالشَّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ.
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا صِدْقُهُمْ؛ وَجَعَلَ عَلَمَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ هُوَ الْكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَجَمِيعُ مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَصْلُهُ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَالصِّدْقُ بَرِيدُ الْإِيمَانِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ، بَلْ هُوَ لُبُّهُ وَرُوحُهُ. وَالْكَذِبُ: بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ وَلُبُّهُ، فَمُضَادَّةُ الْكَذِبِ لِلْإِيمَانِ كَمُضَادَّةِ الشِّرْكِ لِلتَّوْحِيدِ، فَلَا يَجْتَمِعُ الْكَذِبُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَسْتَقِرُّ مَوْضِعَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْجَى الثَّلَاثَةَ بِصِدْقِهِمْ، وَأَهْلَكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ بِكَذِبِهِمْ، فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي هُوَ غِذَاءُ الْإِسْلَامِ وَحَيَاتُهُ، وَلَا ابْتَلَاهُ بِبَلِيَّةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مَرَضُ الْإِسْلَامِ وَفَسَادُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انتهى كلامه.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والله أعلم.