الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلابد من التفريق في باب التروك بين العادات والعبادات، فإن الأصل في العادات الإباحة، بينما الأصل في العبادات التوقيف، كما سبق بيانه في الفتويين:0، 127965. وعلى ذلك، فكل عبادة تركها الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها، فتركها سنة محمودة، وفعلها بدعة مذمومة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 20250.
ومعرفة هذا الضابط وتقريره أصل عظيم من أصول الشريعة، فلابد من تحريره، وقد كفانا مئونة مناقشة المقال الذي نقله الأخ السائل، الإمام الشاطبي في كتابه الجليل (الاعتصام) فقال كأنه يرد على صاحب المقال: إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك غير جار على أصول الشرع الثابتة، فلنقرر هنا أصلا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه، وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما أو تركه لأمر ما على ضربين:
ـ أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره، كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى، كتضمين الصناع ومسألة الحرام والجد مع الإخوة وعول الفرائض، ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع وما أشبه ذلك، مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره ....
ـ والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرا ما من الأمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا إنه لم يحدَّد فيه أمر زائد على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أن القصد الشرعي فيه أن لا يزاد فيه على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجودا، ثم لم يشرع ولا نبه على استنباطه، كان صريحا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع؛ إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط): ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة، كما أن فعله سنة، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج، فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك، وكذلك لو أراد أن ينصب مكانا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له: كل بدعة ضلالة. ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها، أو أن نعلم ما فيها من المفسدة، فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في (الفتاوى الحديثية): ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا غير الصلوات الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقيب السعي بين الصفا والمروة قياسا على الطواف، وكذا ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة، وخرج بقولنا: مع قيام المقتضى في حياته، تركه إخراج اليهود من جزيرة العرب وجمع المصحف، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح فإن المقتضى التام يدخل فيه المانع اهـ.
وقال الشوكاني في (إرشاد الفحول) في البحث العاشر من مباحث السنة (فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها) قال: تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشيء، كفعله له في التأسي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله، أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: "إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه" وأذن لهم في أكله، وهكذا تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة. اهـ.
وقد أجمل الشيخ الفوزان في (خلاصة الأصول) هذا المعنى فقال: يقابل الأفعال التروك، وهي ثلاثة أنواع:
1) أن يترك الفعل لعدم وجود المقتضي له، فلا يكون سنة.
2) أن يترك الفعل مع وجود المقتضي له بسببِ مانعٍ، فهذا لا يكون سنة، لكن إذا زال المانع كان فعل ما تركه مشروعاً غير مخالف لسنته.
3) أن يترك الفعل مع وجود المقتضي له وعدم المانع، فيكون تركه سنة.
وهذا النوع من السنة أصل عظيم وقاعدة جليلة به تُحفظ أحكام الشريعة، ويُوصد باب الابتداع في الدين. اهـ.
وللدكتور محمد الجيزاني كتاب مفيد بعنوان (قواعد معرفة البدع) فكانت القاعدة الثالثة من هذه القواعد، قاعدة: إذا تَرَكَ الرسول صلى الله عليه وسلم فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا، والمانع منها منتفيًا، فإن فعلها بدعة.
والقاعدة الرابعة: كل عبادة من العبادات ترك فعلها السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أو نقلها أو تدوينها في كتبهم أو التعرض لها في مجالسهم فإنها تكون بدعة بشرط أن يكون المقتضي لفعل هذه العبادة قائمًا والمانع منه منتفيًا اهـ.
ومن القواعد التي ذكرها الشيخ بكر أبوزيد في كتابه (تصحيح الدعاء) قاعدة: إذا وُجدَ المُقتضي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفقد المانع، ولم يرتب صلى الله عليه وسلم تشريعاً قولاً أو فعلاً، فإن السُّنة هي الترك تأسياً اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 132702.
وأما ما فعله الصحابة ابتداءً من أنواع العبادات التي لم يأخذوها من دليل خاص، فراجع في بيانه الفتوى رقم: 134076.
والله أعلم.