الإجابــة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري ما هي الفتوى التي أشار إليها االسائل، وعلى أية حال فالغناء أنواع، ولكل نوع حكمه من الحل، أو الحرمة، وأما آلات اللهو والمعازف ـ الموسيقى ـ فقد حكى الإجماع على تحريم استماعها ـ سوى الدف ـ جماعة من العلماء، وراجع في تفصيل ذلك الفتوى رقم:
126078وما أحيل عليه فيها.
وقد افتتحنا الجواب بذلك لينتبه السائل الكريم إلى أن المعازف ـ الموسيقى ـ الهادئة وغير الهادئة مما يحكم بحرمته، وأما الغناء فإنه إن كان بدون آلة لهو ـ موسيقى ـ وكانت كلماته حسنة المعنى، ولم يكن من امرأة بحضرة رجال، فلا حرج فيه، وراجع في ذلك الفتوى رقم:
987.
هذا من حيث الحكم، وأما مسألة العقوبة بالمسخ، فإنها ثابتة في السنة من حيث الجملة، ومن ذلك حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمر. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وراجع في ذلك الفتوى رقم:
54316.
وقد أورد العلامة ابن القيم جملة من نحو هذا الحديث في إغاثة اللهفان: منها حديث أبي مالك الأشعري عند ابن ماجه في سننه: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازيرـ ثم قال: وهذا إسناد صحيح، وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد. اهـ.
وأما بيان الحال التي يعرض مستمع المعازف فيها نفسه لهذه العقوبة، فقد أشار إليها ابن القيم بقوله: وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة. اهـ.
وفي ذلك إشارة إلى أن العلة من مسخ مستمعي المعازف ومحبيها هي الاستحلال بالتأويلات الفاسدة، وقد أفاض في هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته: إقامة الدليل على إبطال التحليل ـ حيث ذكر في الوجه الرابع من إبطال الحيل وأدلة تحريمها قوله تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ـ ثم قال: فبين أنهم استحلوها وعصوا الله بذلك، ومعلوم أنهم لم يستحلوها تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا ـ والله أعلم ـ مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، ثم رأيت هذا المعنى قد ذكره بعض العلماء، وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلتهم على الربا كما مسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت، والله أعلم بحال هذا الحديث، ولولا أن معنى المسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث معروفة لم نذكر هذا الحديث، ولعل الحديث الذي رواه البخاري تعليقا مجزوما به عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري ـ والله ما كذبني ـ سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ـ ورواه البرقاني مسندا ورواه أبو داود مختصرا ولفظه: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير ـ وذكر كلاما قال: يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة ـ إنما ذاك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارا، ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي ولما قيل فيهم: يستحلون، فإن المستحل للشيء هو الذي يأخذه معتقدا حله، فيشبه أن يكون استحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم كألحان الطيور. اهـ.
وهذا الكلام الأخير يفيد الأخ السائل في موضوع الموسيقى الهادئة، وقد أعاد شيخ الإسلام شيئا من هذا المعنى في الوجه العاشر مع ذكر عدة أحاديث صحيحة وحسنة في المعازف والقينات، ثم قال: وهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها، فظهر بهذا أن القوم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما يفعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة فأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مسخوا قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم. اهـ.
والله أعلم.