الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمسألة رجوع الأم الموسرة على الأب المعسر بما أنفقته على ولده محل خلاف بين أهل العلم، حتى في المذهب الواحد، فمثلا في المذهب الحنفي قال ابن نجيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق: قوله: ولا يشارك الأب والولد في نفقة ولده وأبويه أحد ـ أما نفقة الولد فقدمناها، وأما نفقة الوالدين فلأن لهما تأويلا في مال الولد بالنص ولا تأويل لهما في مال غيره، ولأنه أقرب الناس إليهما فكان الأولى باستحقاق نفقتهما عليه أطلق في الأب فشمل الموسر والمعسر، لكن في الذخيرة: إن كان الأب معسرا والأم موسرة أمرت أن تنفق من مالها على الولد فيكون دينا ترجع عليه إذا أيسر، لأن نفقة الصغير على الأب وإن كان معسرا كنفقة نفسه، فكانت الأم قاضية حقا واجبا عليه بأمر القاضي فترجع عليه إذا أيسر، ثم جعل الأم أولى بالتحمل من سائر الأقارب حتى لو كان الأب معسرا والأم موسرة. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 31634.
وقال البغدادي في مجمع الضمانات: لو كان الأب معسرا والأم موسرة تؤمر الأم بالإنفاق على الولد ولا ترجع على الأب، وهو مروي عن أبي حنيفة. اهـ.
وأما مذهب الحنابلة الذي أشار إليه السائل، فقد قال ابن قدامة في المغني: إن أعسر الأب وجبت النفقة على الأم، ولم ترجع بها عليه إن أيسر، وقال أبو يوسف ومحمد: ترجع عليه، ولنا أن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كان الابن في حضانة أمه فأنفقت عليه تنوي بذلك الرجوع على الأب فلها أن ترجع على الأب في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه الذي عليه قدماء أصحابه فإن من أصلهما أن من أدى عن غيره واجبا رجع عليه وإن فعله بغير إذن. اهـ.
وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: لو غاب زوج فاستدانت ـ يعني الزوجة ـ لها ولأولادها الصغار رجعت. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: نفقة الصغار من الأولاد الفقراء غير المتكسبين واجبة في الجملة على الوالد دون غيره في الأصل، فإن امتنع عن الإنفاق عليهم وكان موسرا أجبر على ذلك، ويؤمرون بالاستدانة عليه وإن كان معسرا فعند الحنفية: تؤمر الأم بالإنفاق عليهم من مالها إن كانت موسرة، وإلا ألزم بنفقتهم من تجب عليه لو كان الأب ميتا، ثم يرجع المنفق على الأب إن أيسر، وإن كان الأب زمنا اعتبر كالميت فلا رجوع للمنفق، بل هو تبرع، ومذهب المالكية كالحنفية في حال اليسار، وينوب عن إذن القاضي عندهم إشهاد المنفق على أنه أنفق على سبيل الرجوع، أو يحلف على ذلك، أما إذا كان معسرا فيعتبر الإنفاق على أولاده تبرعا من المنفق، لا رجوع له ولو أيسر الأب بعدئذ، وعند الشافعية: للأولاد الاستدانة بإذن القاضي، ولا رجوع إلا إذا حصل الاقتراض بالفعل للمنفق المأذون، وذهب الحنابلة إلى أنه يستدان للأولاد بإذن، لكن لو استدانت الأم لها ولأولادها بلا إذن جاز تبعا للأم. اهـ.
وللدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي بحث بعنوان: النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير ـ نشر في العدد الثاني والعشرين من مجلة البحوث الإسلامية، قال فيه: أوجب الحنفية إنفاق الأب على ابنه يسارا وإعسارا ويرجع على الأب إذا أيسر، وهو قول عند الشافعية، خلافا للمالكية الذين يرون سقوطها مع الإعسار، واليسار شرط النفقة عند الشافعية في قولهم الآخر، لأنها مواساة فاعتبر يسار المنفق معها، وهو شرط عند الحنابلة في وجوب النفقة، أما إذا عجز الأب عن الإنفاق فيرى الحنفية في قول لهم أنه يتكفف وينفق على ابنه، وفي قول آخر لهم ينفق عليه من بيت المال، وقالوا في قول ثالث: إن عجز الأب فالأولى أن لا يتكفف مع وجود قريب ينفق عليهما كالزوجة الموسرة والتي تعد أولى من غيرها بالإنفاق على زوجها وابنه من سائر الأقارب بما فيهم الجد لأب وترجع على الأب إذا أيسر، والقول في الرجوع بالنفقة على الأب إذا أيسر عند الحنفية باعتبار أن النفقة واجبة على الأب وحده في ظاهر الرواية عندهم وأنه لا يشاركه أحد في النفقة على الطفل لا أمه ولا غيرها، لقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ـ فهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة النساء لأجل الأولاد، مما يدل على أن النفقة واجبة على الأب من باب أولى حيث النسب له، وفي رواية لأبي حنيفة أن النفقة على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد، والحنابلة في قولهم بالرجوع على الأب باعتبار المذهب عندهم أن النفقة على الأب وحده، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ـ فهذه الآية أوجبت نفقة الولد حملا ورضيعا بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعته، أما نفقة الولد على أبيه بعد فطامه فقد دل عليه النص تنبيها فإنه إذا كانت النفقة واجبة على الأب ـ حال اختفاء الطفل أثناء الحمل ـ بالإنفاق على أمه فالإنفاق عليه بعد فصاله مباشرة من باب أولى، وقد تضمن الخطاب بأن الحكم المسكوت أولى منه في المنطوق مما يدل على وجوب النفقة على الأب دون الأم وأنها ترجع عليه بالنفقة. اهـ.
وبهذا يظهر أن هذه المسألة من مسائل الخلاف السائغ المعتبر، وللقاضي أن يحكم فيها بين الناس بما يراه راجحا، وحكمه يرفع النزاع.
ثم ننبه الأخ السائل على مسألتين:
ـ الأولى: أن مسألة إنفاق الموسر على المعسر لا تقتصر فقط على نفقة الأم على أولادها، حتى لقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب نفقة الزوج العاجز عن النفقة على زوجته الغنية، قال ابن حزم في المحلى: إن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلفت النفقة عليه، ولا ترجع عليه بشيء من ذلك إن أيسر. اهـ.
ـ والثانية: أن وجوب النفقة على الأولاد لها شروط، قال الماوردي في الحاوي الكبير: إذا ثبت وجوب نفقة الولد على الوالد فهي معتبرة بشروط في الولد وشروط في الوالد.
فأما الشروط المعتبرة في الولد، فثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون حرا.
والشرط الثاني: أن يكون فقيرا لا مال له، إن كان له مال كانت نفقته في ماله لا على أبيه، لأنها مواساة لا تجب إلا مع الفقر.
والشرط الثالث: أن يكون عاجزا عن الكسب، وعجزه عنه يكون بأحد أمرين، إما بنقصان خلقه، وإما بنقصان أحكامه، أما نقصان خلقه فكالعمى والزمانة، وأما نقصان أحكامه فكالصغر والجنون.
وأما الشروط المعتبرة في وجوب نفقته على الأب فثلاثة شروط:
أحدها: الحرية.
والشرط الثاني: أن يكون قادرا على نفقته، وقدرته عليها تكون من أحد وجهين، إما من يسار بمال يملكه، وإما بكسب بدنه، لأن القدرة على الكسب تجري عليه حكم الغنى وتسلبه حكم الفقر.
والشرط الثالث: أن يقدر عليها فاضلة عن نفقة نفسه فإن لم تفضل عنها سقطت عنه. اهـ.
والله أعلم.