الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإمام الكبير عبد الله بن المبارك من أعيان أئمة الإسلام وجهابذة الحفاظ، ترجمته حافلة بالمآثر والفضائل وانظر ترجمته في السير للذهبي فإنه أطال فيها وأطاب ـ رحمه الله ـ قال ابن كثير في البداية: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا وكانت أمه خوارزمية، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، وَالْأَعْمَشَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانُ وَالشِّعْرُ الْمُتَضَمِّنُ حِكَمًا جَمَّةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ، فَحَيْثُ اجْتَمَعَ بِعَالِمِ بَلْدَةٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرْبُو كَسْبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصَّحَابَةِ، فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَفْضُلُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِصُحْبَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، وَمَا أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي ابْنِ الْمُبَارَكِ ـ ثم ذكر طرفا من أخباره ثم قال: وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعَدْلِهِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ـ يعني سنة إحدى وثمانين ومائة ـ فِي رمضانها عن ثلاث وستين سنة. انتهى.
وابن المبارك ـ رحمه الله ـ كان من أئمة السنة وأعلام أهل الحديث، وحاشاه ـ رحمه الله ـ أن يفسر الاستواء بالاستيلاء أو يؤول شيئا من آيات الصفات أو أحاديثها، وهو العالم الورع المتبحر المتمسك بمذهب السلف، بل كانت عقيدته في هذا الباب هي عقيدة أئمة الإسلام من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا يعرضون لها بالتأويل مع اعتقاد تنزه الرب جل اسمه عن مشابهة المخلوقين، قال الذهبي في العلو: صَحَّ عَن عَليّ بن الْحسن بن شَقِيق قَالَ قلت لعبد الله بن الْمُبَارك كَيفَ نَعْرِف رَبنَا عز وجل؟ قَالَ فِي السَّمَاء السَّابِعَة على عَرْشه وَلَا نقُول كَمَا تَقول الْجَهْمِية أَنه هَاهُنَا فِي الأَرْض ـ فَقيل هَذَا لِأَحْمَد بن حَنْبَل فَقَالَ هَكَذَا هُوَ عندنَا، وروى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الرَّد على الْجَهْمِية بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن الْمُبَارك أَن رجلا قَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قد خفت الله من كَثْرَة مَا أَدْعُو على الْجَهْمِية، قَالَ لَا تخف فَإِنَّهُم يَزْعمُونَ أَن إلهك الَّذِي فِي السَّمَاء لَيْسَ بِشَيْء، وهذا هو اللائق بهذا الإمام والذي لا يظن به غيره.
ولم نقف في سيرته والآثار المنقولة عنه ـ رحمه الله ـ على شيء يخالف هذا.
والله أعلم.