الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن القرآن الكريم تشرع الرقية به وسؤال الله به، كما في الحديث: اقرءوا القرآن وسلوا الله به. رواه أحمد وصححه الألباني.
فالقرآن فيه علاج للسحر وشفاء لكثير من الأمراض التي تصيب الناس، كما قال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين{ الإسراء: 82}.
وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يونس:57}.
وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى {فصلت: 44}.
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة ـ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وامرأة تعالجها أو ترقيها، فقال: عالجيها بكتاب الله. والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه زاد المعاد: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟!! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه، قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {العنكبوت:51} فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله، ومن لم يكفه القرآن فلا كفاه الله. انتهى.
ولكن الأولى الاقتصار على ما ثبت النص عليه كالفاتحة وآية الكرسي، والإخلاص والمعوذتين، لأن هذه السور ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصها بالقراءة في الرقية، قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك، وهما: المعوذتان، وفي الحديث: لم يتعوذ بمثلهما. اهـ
وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشياطين، وأما الفاتحة فقد روى الترمذي والدارمي والبيهقي بألفاظ متقاربة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء. وهذا لفظ الدارمي، وسنده أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في فاتحة الكتاب الحديث، قال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح غير أنه مرسل.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
وفي البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما من التعويذات.
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فَلُدِغَ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم لو أتيتم هذا الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لُدِغَ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحدٍ منكم من شيء، فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جُعْلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قراءة آيات معينة غير ما ورد لرقية المسحور بها فقد ذكر ابن القيم أثراً في ذلك عن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور والآيات هي قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ {يونس:81} وقوله: فوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأعراف:118} وقوله: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى {طه:69} .
وواضح من هذا قصدهم للآيات الواردة في السحر والتي فيها إبطال الله لسحر قوم فرعون.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن بعض القرآن له خصائص في العلاج وغيره، قال السيوطي في الإتقان: وغالب ما يذكر في ذلك كان مستنده تجارب الصالحين، وقد ذكر ـ رحمه الله تعالى ـ أشياء مما كان يقرأ بعض الصالحين ثم قال: وأخرج البيهقي في الدعوات عن ابن عباس موقوفاً في المرأة يعسر عليها ولادها قال: يكتب في قرطاس ثم تسقى باسم الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون. اهـ.
والمعروف عن السلف العلاج بما يوافق في الاشتقاق والمعنى ما أصيب به المرقي، وأما ما يفضي لتحريف القرآن فيتعين البعد عنه، لأن المعروف عن الشياطين والسحرة هو حرصهم على إضلال الناس وإغوائهم، وتحريف القرآن هو أخطر أنواع الضلال، ولا شك أن الرجال في آية الحج لا يراد بها الذكور وإنما يراد المشاة على الأرجل، وأما كتابة القرآن في الأماكن المذكورة من الجسد فقد قدمنا في الفتوى رقم: 160603، أنا لا نراه جائزا، بل الواجب تعظيم كتاب الله وتنزيهه عن كتابته في ذلك المكان فقد قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ{الحج:32}. وقال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ. {الحج :30}.
وقال الإمام النووي: وأجمعت الأمة على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويجب احترام القرآن حيث كتب، وتحرم كتابته حيث يهان. انتهى.
والخلاصة أن الأصل في القرآن أنه كله شفاء، ويصلح كله أن يكون رقية، ولكنه إذا رُتب على الرقية ببعض آياته مفاسد، أو استعمل بعضه استعمالا خاطئا فإن ذلك يجعل الرقية بما ترتب عليه شيء من ذلك غير مشروعة.
والله أعلم.