الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الحديث الأول فرواه أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وقال الأرنأوط محقق المسند إن إسناده صحيح.
وأما حديث قتادة عن أنس في تفسير قوله تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ { السجدة: 16} قَالَ: كَانُوا يَتَيَقَّظُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يُصَلُّونَ ـ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: قِيَامُ الليل. فرواه أبو داود وصححه الألباني.
وذكره عن أنس بهذا اللفظ والذي قبله الثعلبي في تفسيره، وقد بينا في فتاوى كثيرة مشروعية الصلاة بين المغرب والعشاء وأنها من قيام الليل، وانظر الفتوى رقم: 167167.
وهذه الآثار تدل على فضيلة التطوع بين العشاءين، وهذا التطوع جائز في المسجد كما يدل له حديث عبد الله بن عمرو المذكور، ولكن الأفضل لمن أراد التطوع بين العشاءين أن يكون ذلك في بيته، لعموم الأحاديث المرغبة في صلاة النافلة في البيت، وقد ورد الترغيب في صلاة راتبة المغرب خاصة في البيت، وظاهر فعل السلف أنهم كانوا يصلون ما أرادوا صلاته بين العشاءين في بيوتهم، قال ابن القيم رحمه الله: وَكَانَ يُصَلِّي عَامَّةَ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ فِي بَيْتِهِ لَا سِيَّمَا سُنَّةُ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ الْبَتَّةَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حنبل: السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، كَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، إِذَا انْصَرَفُوا مِنَ الْمَغْرِبِ، انْصَرَفُوا جَمِيعًا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ، كَأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى أهليهم. إلى أن قال رحمه الله: روى النسائي وأبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَسْجِدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى فِيهِ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدَهَا، فَقَالَ: هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ ـ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ فِيهَا: ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ ـ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِعْلُ عَامَّةِ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حَفِظْتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. انتهى كلامه رحمه الله.
وبه تعلم أن غاية ما يدل عليه بعض هذه الآثار هو جواز الصلاة بين العشاءين في المسجد لا أنه هو الأفضل والمستحب.
والله أعلم.