الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبر الوالدين مما أجمع على وجوبه علماء المسلمين، قال أبو محمد ابن حزم ـ رحمه الله ـ في مراتب الإجماع: واتفقوا أن بر الوالدين فرض. انتهى.
ولم يفرق أحد من العلماء بين الوالد العدل والفاسق في وجوب البر بحسب اطلاعنا، بل نص كثير منهم على عدم الفرق وهذا واضح، لأن الفسق لا يسقط الحق الواجب، قال في الفواكه الدواني: ومن الفرائض العينية على كل مكلف بر الوالدين أي الإحسان إليهما ولو كانا فاسقين بغير الشرك، بل وإن كانا مشركين، للآيات الدالة على العموم، والحقوق لا تسقط بالفسق ولا بالمخالفة في الدين. انتهى.
ونقل في الآداب الشرعية عن صاحب المستوعب قوله: وَمِنْ الْوَاجِبِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ وَطَاعَتُهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى. انتهى.
وفي الموسوعة الفقهية: ومن الواجب على المسلم بر الوالدين وإن كانا فاسقين أو كافرين. انتهى.
وبه تعلم أن صلة الوالدين المسلمين واجبة وهذا مما لا يشك فيه، ولا يؤثر في ذلك فسقهما وتعديهما حدود الله، نعم أجاز بعض العلماء هجر الوالد العاصي إن تعين هجره طريقا لإصلاحه، وهذا لما له في الهجر من المصلحة، وانظر الفتوى رقم: 135440.
وأما هجر سعيد بن المسيب أباه فلم يذكره أحد بحسب اطلاعنا غير ابن قتيبة في المعارف، وقد ذكره بغير إسناد، وعبارته: وسعيد بن المسيّب هجر أباه فلم يكلمه حتى مات. انتهى.
ولا نظن هذا يصح البتة عن سيد التابعين، فإنه أورع من أن يهجر أباه مع ورعه وفضله وعلمه، وأبوه صحابي كريم وحديث سعيد عن أبيه مسطر في دواوين الإسلام، فيبعد ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن يكون هذا قد وقع من سعيد ثم يغفله عامة من ترجم له وذكر أخباره، على أنه إن سلم وقوعه منه فليس هو مما يقتدى به فيه، ويكون هذا من السعي المغفور ـ بإذن الله ـ لا من السعي المشكور، وأما الوالد الكافر فقد مر بك من النقول ما يفيد أنه في وجوب البر كالوالد المسلم، ولكن مال بعض العلماء إلى خلاف هذا وأن الوالد الكافر دون المسلم في الحق، قال ابن مفلح في الآداب الكبرى: وَظَاهِرُ مَا سَبَقَ وُجُوبُ طَاعَةِ الْوَالِدِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ السَّابِقِ فِي قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ أَنَّ الْكَافِرَيْنِ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمَا وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُمَا فِي الْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَيُعَامِلُهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ اتِّبَاعًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: جَاءَتْنِي أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـ قال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ: وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمِ لَا سِيَّمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَالطَّاعَاتِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَكِنْ يُعَامَلُ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا سَبِيلَ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا وَطَاعَتُهُمَا حِينَئِذٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ مَعُونَةٌ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا وَيُطِيعَهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، كَذَا قَالَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. انتهى.
وفي تعقبه كلام الخطابي ما يشعر بميله إلى ما يفهم من كلام صاحب المستوعب من أن الوالد الكافر ليس في البر كالمسلم.
والله أعلم.