الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولا أن المجاورة بمكة والمدينة حرسهما الله مما اختلف فيه أهل العلم، ولعل الراجح استحباب ذلك إن شاء الله.
جاء في الموسوعة الفقهية في بيان تفصيل هذا الخلاف: تُسْتَحَبُّ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُل مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي لاَ تَحْصُل فِي غَيْرِهَا مِنَ الطَّوَافِ وَتَضْعِيفِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ كَرَاهَةُ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمِ خَوْفًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُرْمَتِهِ وَالتَّبَرُّمِ وَاعْتِيَادِ الْمَكَانِ. وَلِمَا يَحْصُل بِالْمُفَارَقَةِ مِنْ تَهْيِيجِ الشَّوْقِ وَانْبِعَاثِ دَاعِيَةِ الْعَوْدِ. قَال تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} أَيْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَعَلَّل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ بِالْخَوْفِ مِنْ رُكُوبِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ فِيهِ. انتهى. وقال النووي رحمه الله بعد حكاية الخلاف: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ أَوْ بَعْضِهَا. وَقَدْ جَاوَرَ بِهِمَا خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وخلفها ممن يقتدى به. انتهى.
فدراستك بقصد أن تجاور في الحرم ليست داخلة فيما لا يبتغى به وجه الله لأنها بقصد فعل مستحب يقرب إلى الله تعالى وليس هذا داخلا في الحديث، بل المذموم أن يتعلم العلم لأجل عرض الدنيا وثناء الناس ونحو ذلك من الأغراض المذمومة. على أن مقامك في بلدك تنفع الناس بعلمك وتدعوهم إلى الله تعالى فيها نفع عظيم وبخاصة إذا كانت بالناس حاجة إليك. فالذي نراه أولى أن تعمل بالإمامة بقصد نفع الناس وتعليمهم وأن تجتهد في تكميل دراستك تحصيلا لمزيد العلم النافع فإن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ونرجو أن يكون ثواب مقامك ببلدك وتعليمك للناس أعظم من أجر مقامك بمكة ومجاورتك بها لما في ذلك من النفع المتعدي للمسلمين.
قال ابن رجب: النفع المتعدي خير من النفع القاصر. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله ضمن سياقه لطبقات المكلفين في الآخرة: فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأَموال في مرضاة الله، فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض، ما دامت آثارهم في الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، يختص الله بها من يشاءُ من عباده. الطبقة الثامنة: طبقة من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافاً إلى أداءِ فرائض الله عليه فهو جاهد في تكثير حسناته، وإملاءِ صحيفته، وإذا عمل خطيئته تاب إلى الله منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة. ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته [بموته] فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضاً عند الله. انتهى.
فأنت ترى أن أهل العلم الداعين إلى الله تعالى أعظم أجرا ممن اقتصر نفع عبادتهم عليهم، والآيات والأحاديث في فضل الدعوة إلى الله تعالى وتعليم الناس الخير أكثر من أن تحصر. فصحح نيتك في العمل في مجال الإمامة فإن في ذلك خيرا عظيما إن شاء الله، ولا يتعارض هذا المنصب مع تكميل دراستك فالجمع بينهما جمع بين المصلحتين وهو الأولى.
والله أعلم.