الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث رواه أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه عن أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَعْطُوا كُلَّ سُورَةٍ حَظَّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ـ وصحح إسناده الأرنؤوط في تحقيق المسند، وكذا صححه الألباني رحمه الله.
والمشهور عند العلماء في معنى هذا الحديث أنه نهي عن قراءة أكثر من سورة في ركعة، بل يقرأ السورة فيركع بها ويسجد ولا يقرن بين السور في الركعة الواحدة، ولذا ذكره محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ في باب كراهة تقطيع السورة والجمع بين السور في ركعة، وقد ثبت ما يعارض هذا الحديث وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة بأكثر من سورة أحيانا كما قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، وكما حدث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النظائر التي كان يقرن بينها صلى الله عليه وسلم في ركعة، قال الشيخ أبو بطين رحمه الله: وأما حديث: اعطوا كلّ سورة حظّها من الرّكوع والسّجود ـ فالظّاهر أنّ المراد لا يزيد في الرّكعة على سورة وفي هذه المسألة خلاف فالأكثرون من العلماء على أنّه لا يكره الجمع بين سورتين فأكثر في الرّكعة الواحدة، لقراءة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم. انتهى.
وجمع في تحقيق المسند بين هذه الأحاديث بما عبارته: وقد جاء غير ما حديث عن رسول الله أنه جمع بين سورتين أو أكثر في ركعة واحدة، منها حديث ابن مسعود وهو في الصحيحين، والأمر في حديث أبي العالية هذا ينصرف إلى من لم يُعط القرآن حقه في الصلاة من حيث إجادة حروفه وتبيانها، فيَهُذُّه كَهَذِّ الشعر، كما جاء في حديث ابن مسعود. انتهى.
ومن العلماء من حمله على ما فهمت من المعنى، قال في الفتح الرباني: لكل سورة حظها من الركوع والسجود أي نصيبها ومقدارها يعني ـ والله أعلم أنه ـ إذا كانت القراءة طويلة يكون الركوع والسجود قريبين من ذلك الطول، وإذا كانت قصيرة فكذلك تكون النسبة، ويؤيد ذلك ما قدمنا في الكلام على الحديث السابق من رواية مسلم عن البراء بن عازب، وفيها قال: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته بين التسليم والانصراف قريبا من ذلك، فهذه الرواية تشير إلى تقارب الأركان بعضها من بعض ومنها القيام للقراءة، هذا ما ظهر لي، وحمل بعضهم قوله: لكل سورة حظها من الركوع والسجود ـ على جواز القراءة فيهما، ويمنع ذلك ما صح من النهي عن القراءة في الركوع والسجود عند مسلم والإمام أحمد وغيرهما. انتهى.
ورجح الألباني ـ رحمه الله ـ في معنى الحديث وجها آخر، فذهب إلى أن معناه النهي عن قراءة أقل من سورة في الركعة، قال في أصل صفة الصلاة ما مختصره: وكان يبتدئ من أول السورة، ويكملها في أغلب أحواله، ويقول: أعطوا كل سورة حَظَّها من الركوع والسجود، وفي لفظ: لكل سورة ركعة ـ وهذا حديث صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الستة هذا، ولم أجد من شرح الحديث وأبان عن المراد منه، إلا المناوي في فيض القدير، ولم يصب حيث قال: أي: فلا يكره قراءة القرآن في الركوع والسجود، وقال في مكان آخر: ويحتمل أن المراد: إذا قرأتم سورة، فصلوا عقبها صلاة قبل الشروع في الأخرى، ويحتمل أن المراد: أوفوا القراءة حقها من الخشوع والخضوع اللذين هما بمنزلة الركوع والسجود في الصلاة، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا، وهذان الاحتمالان بعيدان جداً عن لفظ الحديث، لا سيما اللفظ الثاني، والمعنى الثاني لم يذهب إلى العمل به أحد من العلماء فيما علمت، والمعنى الأول هو أقرب ما يكون إلى ظاهر الحديث، لكن الرواة لم يفهموا منه ذلك ـ كما سبق في تخريجه ـ فإن أبا العالية أحد رواته كان يجمع بين عشرين سورة في ركعة قبل أن يبلغه الحديث، فلما بلغه ترك ذلك وكذلك لما بَلَّغه ابن سيرين استغرب ذلك، وعارضه بأن ابن عمر كان يجمع بين السور، فأراد أن يتحقق من الحديث، فقد اتفق أبو العالية وابن سيرين على أن معنى الحديث: أنه ينبغي الاقتصار على سورة في كل ركعة، ويحتمل أن معنى الحديث: لكل سورة ركعة، أي: سورة كاملة في كل ركعة، أي: فلا يقتصر على بعضها، بل عليه أن يُتِمَّها، ليكون حظ الركعة بها كاملاً، وأنا إلى هذا المعنى أميل، وعليه، فالحديث يدل على الكمال من القراءة، وهي السورة الكاملة واقتصاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعضها نادراً، إنما هو للدلالة على جواز ذلك مع الكراهة التنزيهية، لأنها خلاف الأفضل، ولكنه لا ينفي الزيادة على السورة، وأنها أكمل وأفضل، كيف ذلك وقد صح عنه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ السورتين فأكثر في ركعة واحدة، وأنه كان يقول: أفضل الصلاة طول القيام. انتهى.
فهذا ما تحصل لنا في معنى هذا الحديث وكلام العلماء عليه.
والله أعلم.