الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد سبق أن وجه لنا سؤال سابق فيما ذكرته السائلة وأجبنا عنه اختصارا في الفتوى رقم: 49152.
ونجد أنفسنا الآن مضطرين للرد بشيء من التفصيل فنقول: اعلمي ـ أيتها السائلة ـ أن الفقهاء اختلفوا في المذي هل هو نجس أم طاهر, فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المذي نجس, وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وهي المذهب عند الحنابلة, وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أنه طاهر, قال ابن رجب في فتح الباري: وعن أحمد رواية: أن المذي طاهر كالمني، وهي اختيار أبي حفص البرمكي من أصحابنا، أوجب مع ذَلِكَ نضحه تعبداً. اهــ.
وقال المرداوي في الإنصاف: وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ. اهـ.
ولقلة القائلين بطهارة المذي وشذوذ هذا القول نقل كثير من العلماء الاتفاق على نجاسته، كما قال الشوكاني في نيل الأوطار: واتفق العلماء على أن المذي نجس. اهــ.
ولا شك أن قول الجمهور أقوى وأسعد بالدليل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه وأمره بنضح ما يصيب الثوب منه إذ لو كان طاهرا لما كلفنا بنضحه كسائر الطاهرات، فلما أمر بنضحه دل على أنه نجس, وقول السائلة إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إن المذي نجس, نقول وأيضا لم يقل صلى الله عليه وسلم إن البول نجس, ولما بال الأعرابي في المسجد أمر بصب ماء على بوله ولم يقل إنه نجس, وكذا لا يوجد حديث ـ فيما نعلم ـ يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم إن الغائط نجس، ولكن لما جاء الشرع بالاستنجاء منهما دل على نجاستهما وانعقد الإجماع على نجاستهما, فكذا يقال لما جاء الأمر بغسل الذكر من المذي ونضح ما أصاب الثياب منه دل هذا على نجاسته، ولو كان طاهرا لما أمر عليا بنضحه مع أنه قال: كُنْتُ أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْ الِاغْتِسَالِ ـ ومع ذلك لما سأله عما يصيب الثوب منه قال له: يَكْفِيكَ بِأَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهَا مِنْ ثَوْبِكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَهُ.
فلو كان طاهرا لما كلفه هذا مع ما كان يلقاه من كثرة نزوله, وقولها لو كان نجسا لما اكتفى بالرش أو النضح جوابه إن الاكتفاء بالرش أو النضح لأجل أن نجاسته مخففة أو لأجل التخفيف على الناس، كما جاء الرش والنضح في بول الصبي وبول الصبي نجس، ومع ذلك جاء الشرع بالاكتفاء بنضحه أو رشه، كما في حديث أبي السمح: يرش من بول الغلام.
وكما في حديث أم قيس قالت: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ عَلَيْهِ. متفق عليه.
وفي لفظ لهما: فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا.
فاكتفى بالنضح أو الرش مع أن بول الصبي نجس, قَالَ الْخَطَّابِيّ: لَيْسَ تَجْوِيز مَنْ جَوَّزَ النَّضْح مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَوْل الصَّبِيّ غَيْر نَجِس، وَلَكِنَّهُ لِتَخْفِيف نَجَاسَته. اهــ.
واختلفوا في الحكمة من الاكتفاء بالنضح أو الرش فقيل إن نجاسته مخففة، وقيل لأجل المشقة الحاصلة بالغسل، لأن الصبي يتبول بكثرة فلو جاء الشرع بغسل بوله كلما بال لكان فيه مشقة, وهكذا الحال في المذي, فقد ذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أن المذي نجاسته نجاسة مخففة وأنه يعفى عن يسيره، قال ابن رجب في الفتح: وعن أحمد رواية: أنه يعفى عن يسيره كالدم, وعنه رواية ثالثة: أن نجاسته مخففة، يجزىء نضحه بالماء، كبول الغلام الذي لم يأكل الطعام، لعموم البلوى به، ومشقة الاحتراز منه. اهــ.
والقول بأنه لزج لا يزول بالرش والنضح لا يدل على طهارته، فالعذرة نجسة بالاتفاق وقد جاء الشرع بالاكتفاء بمسح أسفل النعل منها, قال الشوكاني في نيل الأوطار في الرد على من احتج بما احتجت به السائلة: محتجين بأن النضح لا يزيله ولو كان نجسا لوجبت الإزالة، ويلزمهم القول بطهارة العذرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسح النعل منها بالأرض والصلاة فيها، والمسح لا يزيلها، وهو باطل بالاتفاق. اهــ.
مع أن بعض الفقهاء قال إن المقصود بالرش في تطهير المذي الغسل، لأن النضح والرش في اللغة يطلقان ويراد بهما الغسل، قال بدر الدين العيني في شرح البخاري: النضح هو صب الماء، لأن العرب تسمي ذلك نضحا وقد يذكر ويراد به الغسل وكذلك الرش يذكر ويراد به الغسل، إلخ. وضرب أمثلة على ذلك.
والقول بأن الأمر بغسل الفرج لأجل إيقاف الخارج كما يفعل بالضرع نقول فيه إن هذه حكمة ذكرها أهل العلم كما قال في عون المعبود: وَيُقَال إِنَّ الْمَاء الْبَارِد إِذَا أَصَابَ الْأُنْثَيَيْنِ رَدَّ الْمَذْي فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِغَسْلِهَا.
ولا مانع من أن تكون هذه حكمة أخرى مع القول بنجاسة المذي، وكذا القول بأن المذي جزء من المني قال به بعض أهل العلم، ولكن حتى لو فرض أن هذا صحيح فلا يلزم من كون المذي جزءا من المني أن يأخذ حكمه في كل شيء؛ إذ الاختلاف بينهما حاصل فيما يلزم من خروجهما, فالمني يجب بخروجه الغسل ومع ذلك لا يجب الغسل بخروج المذي، فهل يقال يجب الغسل من المذي، لأنه جزء من المني, هذا لا يقوله أحد، وأما القول بأن ما ينزل من النساء يسمى قذيا فهذا صحيح, وقد جاء في اللسان، كلُّ ذَكَرٍ يَمْذي وكل أُنثى تَقْذي.
ولكن اختلاف التسمية لا يلزم منه اختلاف الحكم، وقد قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ عن المذي وهو من هو في علمه باللغة: وَيَكُون ذَلِكَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَة، وَهُوَ فِي النِّسَاء أَكْثَر مِنْهُ فِي الرِّجَال. اهــ.
والله أعلم.