الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فنقول ابتداء إن هذه الشبه التي أوردها صاحبها تدل على ضحالة تفكيره وعظيم جهله، وهذه حال كثير من المشككين فيما جاء به الشرع، يُعمِلون أفهامهم السقيمة في النصوص الشرعية ويخرجون بنتائج باطلة ثم يظنون أنهم أتوا بما لم يسبقوا إليه ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصيام يوم عاشوراء مستحب بالإجماع، ولم تختلف الأمة طيلة أربعة عشر قرنا على مشروعية صيامه حتى جاء هؤلاء وحاولوا التشكيك فيه.
قال الإمام النووي في المجموع عن صوم عاشوراء: وأجمع المسلمون على أنه [اليوم] ليس بواجب ، وأنه سنة ... " اهــ .
ونحن نرد بتوفيق الله ومعونته على تلك الشبه واحدة تلو أخرى فنقول :
أولا : قوله إن اليهود لا يعتمدون في تقويمهم على الهلال , هو جهل بواقع الحال عند اليهود فإن السنة العبرية عند اليهود تعتمد أيضا على القمر إلا أنهم يقدمون ويؤخرون ويضيفون.
جاء في الموسوعة العربية العالمية: تعتمد السنة العبرية على القمر، وهي في العادة مكونة من 12 شهراً. وهذه الأشهر هي : تشْري، مرحشوان، كسلو، طبت، شباط، أدار، نيسان ، أيار، سيوان، تموز، آب، أيلول. تتكون الأشهر من 30 و 29 يومًا بالتبادل. في خلال كل 19 عامًا، يضاف شهر إضافي قوامه 29 يومًا سبع مرات بين شهري أدار ونيسان، ويطلق على هذا الشهر اسم فيادار. وفي الوقت ذاته يصبح أدار 30 يومًا بدلاً من 29 يومًا. اهــ .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن اليهود الذين عاصرهم وهو يرد على من يقول إنهم لا يعتدون بالهلال: فَإِنَّ الْيَهُود لَا يَعْتَبِرُونَ فِي صَوْمهمْ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، هَذَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ مِنْهُمْ ، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَعْتَبِر الشُّهُور بِحِسَابِ الشَّمْس لَكِنْ لَا وُجُود لَهُ الْآن، كَمَا اِنْقَرَضَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عُزَيْر اِبْن اللَّه. اهــ .
ثانيا : لو سلمنا جدلا أن اليهود لا يعتدون بالقمر في الحساب، وبالتالي خلص إلى تلك النتيجة البائسة من أن اليوم الذي نجى الله فيه موسى لا يمكن تحديده بتقويم الأهلة لأن اليهود لا يحسبون بها، كما أنه لا يمكن تحديد ميلاد المسيح بتقويم الأهلة لأن النصارى لا يحسبون بها. نقول إنه نسي حقيقة لا تخفى على من له أدنى بصيرة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي يوحى إليه، لا ينطق عن الهوى ومؤيد بالوحي من السماء ولا يقر على الخطأ لو فرض حدوثه. فإذا صام يوم عاشوراء على اعتبار أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى علمنا يقينا أن الله نجى موسى في ذلك اليوم, وإذا ثبت هذا فإننا نصوم هذا اليوم لأن الله جعل المعتمد في مواقيت الناس هو الهلال لا ما يحسب به اليهود والنصارى قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ... } سورة البقرة : 189 , وقال تعالى عن القمر: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.{يونس:5}. فإذا خرج اليهود والنصارى عما سنه الله لعباده وجعله ميزانا للمواقيت لهم فإن هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئا, ويكونون بذلك قد غيروا اليوم الذي نجى الله فيه موسى حين حسبوه بالأشهر الشمسية, ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رد الأمر إلى نصابه واعتد بما جعله الله ميقاتا لحساب الناس .
ثالثا : لو فرض أن اليهود يخالفوننا في طريقة الحساب ويعتدون بالأشهر الشمسية فإن هذا لا يضر أيضا لأن هذا يكون مما أحدثوه وبدلوه من الشرائع السابقة, وقد ذكر أهل العلم أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أولا يعتدون بالهلال فبدلوا وحرفوا كما بدلوا أصل الدين وحرفوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُود فِي اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ، وَفِي جَعْلِ بَعْضِ أَعْيَادِهَا بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَكَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي صَوْمِهَا حَيْثُ تُرَاعِي الِاجْتِمَاعَ الْقَرِيبَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَتَجْعَلُ سَائِرَ أَعْيَادِهَا دَائِرَةً عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمَسِيحِ ... اهــ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في مجموع فتاواه: وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضاً في صومهم وعبادتهم، ولكنهم بدلوا قلت: ويؤيده قوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } والناس كلمة عامة وقوله تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب }. وقوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم }. وقد أجمعوا على أن المراد الأشهر الهلالية. اهــ .
رابعا : تشكيكه في تلك الروايات الصحيحة بزعمه أن اليهود لا يحتفلون بهذا اليوم الآن. جوابه أن هذا غير صحيح أيضا فإن اليهود يحتفلون كل سنة بعيد الفصح وهو عيد له علاقة باليوم الذي نجاهم الله فيه من فرعون، حيث يحتفل فيه اليهود بذكرى خروجهم من مصر، وما عانوه في هروبهم.
جاء في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري: وفي شهر أبريل، يحل عيد الفصح، حيث يروي اليهود قصص عبوديتهم في مصر وما عانوه من مشقة في الهرب عبر الصحراء ... اهــ.
ولو فرض أنهم الآن لا يحتفلون بهذا اليوم فإن هذا لا يعتبر قادحا في الأحاديث الصحيحة التي جاءت بأنهم كانوا يصومونه, فاليهود الآن لا يقولون بأن عزيرا ابن الله, فهل هذا يعني أنه لم يكن في السابقين من كان يقول بهذه المقولة, واليهود اليوم لا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهل هذا يعني أن موسى لم يخبرهم به ؟!! فإذا كان اليهود اليوم قد تركوا ما جاءهم به موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلأن يتركوا عيدا من باب أولى .
خامسا : زعمه بأن هناك تناقضا بين الأحاديث حيث جاء في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه أول مقدمه المدينة, وفي بعضها أنه مات قبل أن يصوم التاسع, ويعضد ذلك بأنه بقى بالمدينة 13 سنه بعد هجرته. نقول له مصححين أولا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش في المدينة بعد هجرته إلا عشر سنين، وهذا مما يستوي في علمه أهل العلم وأهل الجهل. ثم نقول إنه لا تعارض بين ما ذكره البتة فالنبي صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء أول مقدمه المدينة ولم يعزم وقتها على صيام التاسع معه، وظل يصوم العاشر وحده إلى ما قبل وفاته بسنة لمَّا ذكره الصحابة بأن اليهود يعظمونه وقد علموا من سنته أنه يحب مخالفتهم بعدما كان في أول البعثة يوافقهم أخبرهم عندها أنه سيصوم التاسع معه ومات قبل مجيء التاسع من السنة التالية , فأي تعارض في هذا ؟!! وليس في هذا أنه كان لا يعلم تعظيم اليهود له وإنما نزل التشريع بمخالفتهم في تلك السنة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قَدْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُخَالِف فِيهِ أَهْل الْأَوْثَان ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّة وَاشْتُهِرَ أَمْر الْإِسْلَام أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ ، فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا وَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ، ثُمَّ أَحَبَّ مُخَالَفَتهمْ فَأَمَرَ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ يَوْمٌ قَبْله وَيَوْمٌ بَعْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ. اهــ .
والله أعلم.