الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ شأنه شأن غيره من الأئمة قد يكون له في المسألة الواحدة قولان أو أكثر، وهذا ليس بمستغرب فإن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ظل يفتي الناس زهاء خمسين سنة من عمره المبارك، وفي تلك المدة يتجدد له من العلم ويظهر له من وجوه الاستنباط ما كان خفيا عنه، وقد بين هو ـ رحمه الله ـ سر الاختلاف في قوله بما يزيل اللبس، حيث قال كما جاء في المسودة لآل تيمية رحمهم الله: أنا أنظر في الحديث فإن رأيت ما أحسن أو أقوى أخذت به وتركت القول الأول. انتهى.
وإيضاحه أنه قد يبلغه من العلم ما لم يكن بلغه فلا يسعه إلا أن يقول بمقتضى ما بلغه من العلم، وقد يصحح حديثا كان يضعفه أو العكس، وقد تظهر له دلالة من نص على معنى لم تكن ظاهرة له، وكل هذا يؤدي إلى اختلاف قوله ورجوعه عما كان يفتي به، وفي المسائل التي ليس فيها نص كان لا يخرج عن أقوال الصحابة، وقد يختلف قوله بناء على اختلاف أقوالهم، وقد يكون اختلاف الرواية عن أحمد منشؤه فهم الأصحاب لكلامه ومدلولات ألفاظه واختلافهم في ذلك، وهذا بحث طويل متشعب، وفي أول إعلام الموقعين بيان الأصول التي كان يعتمدها أحمد في الفتوى، ثم معرفة الراجح من أقواله والمعتمد من الروايات عنه ـ رحمه الله ـ قد حررها أصحابه رحمهم الله أتم تحرير وقرروها أحسن تقرير، قال شيخ الإسلام: ومن كان خبيرًا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل. انتهى.
وقد نال العلاء المرداوي ـ رحمه الله ـ القدح المعلى في تحقيق المذهب وبيان ما هو الراجح فيه وذلك في كتابه الجليل الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، وفي مقدمته وخاتمته ومقدمة تصحيحه لفروع ابن مفلح فوائد نفيسة في طريقة معرفة المذهب والترجيح بين الأقوال المتعارضة عن أحمد رحمه الله.
والله أعلم.