الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد :
فجوابنا على سؤال السائل يتلخص فيما يلي:
أولا: الوصية بوقف البيت المشار إليه إن كان أوقفه في مرض موته أو وقفا معلقا بموته، فإنه يأخذ حكم الوصية، كما بيناه في الفتوى رقم: 110823.
وهو هنا أوقف على بعض الورثة، لأنه لم يذكر أمه وزوجته ضمن الموقوف عليهم, وللعلماء خلاف في حكم الوقف على بعض الورثة في مرض الموت, جاء في الموسوعة الفقهية: الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ نُفُوذِهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ ..... وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَةِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ فَأَقَل صَحَّ الْوَقْفُ، سَوَاءٌ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ تَوَقَّفَ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ..... وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ..... وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ بِمَرَضِ مَوْتِهِ بَطَل وَلَوْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ وَلَوْ حَازَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ، وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ لَهُ بِقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ لَمْ يَبْطُل، لأِنَّهُ ابْتِدَاءُ وَقْفٍ مِنْهُمْ وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَارِثِ مَسْأَلَةً تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ وَلَدِ الأْعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ لِصُلْبِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ يَصِحُّ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّ الْوَارِثَ يُعْتَبَرُ كَالْمِيرَاثِ فِي الْقِسْمَةِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأْنْثَيَيْنِ لاَ مِيرَاثٌ حَقِيقِيٌّ، فَلاَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأِنَّهُ بِأَيْدِيهِمْ وَقْفٌ لاَ مِلْكٌ. اهــ مختصرا.
والشافعية نصوا على أن الوقف في مرض الموت على الوارث يأخذ حكم الوصية له فلا يمضي إلا بإجازة الورثة, قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: تنبيه في معنى الوصية للوارث الوقف عليه وإبراؤه من دين عليه أو هبته شيئا فإنه يتوقف على إجازة بقية الورثة. اهــ.
وعلى هذا ينفذ الوقف المشار إليه عند الحنفية والحنابلة في حدود الثلث ، وأما زاد عن الثلث فلا يمض إلا برضا الأم والزوجة ، ولا ينفذ عند المالكية والشافعية وقف البيت إلا إذا رضي الورثة بإمضائه, وقد رجح الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ هذا القول واعتبر أن الوقف على بعض الورثة داخل في حكم الوصية لهم حيث قال رحمه الله تعالى: فبالنظر إلى النصوص الشرعية لا شك أن الوصية بوقف شيء من المال على بعض الورثة داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: لا وصية لوارث ـ فإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض الورثة بسكنى شيء أو استثمار شيء من عقاره لمدة سنة، فكيف يجوز أن يوصي له بما يقتضي سكنى الدار واستثمار العقار دائما وأبدا، وإذا كان الله تعالى قد فرض للورثة ومن جملتهم أولادك الذين خصصتهم بالوصية بالوقف عليهم، إذا كان الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه فكيف يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم؟ ألم يكن هذا تعديا لحدود الله واقتطاعا من حق بعض الورثة لورثة آخرين؟ وهذا معناه الجور في الوصية والمضارة للورثة إذاً، فهذا العمل من الناحية الشرعية حرام ومعصية لله ورسوله وتعد لحدوده، ويبقى النظر إليه من الناحية الاجتماعية ففيه مضار:
1ـ الظلم والجور، وضرر الظلم والجور ليس على فاعله فحسب، بل على جميع الناس.
2ـ حرمان الورثة الخارجين من هذا الوقف من حقهم الثابت في التركة.
3ـ إلقاء العداوة بين الموقوف عليهم فكم حصل بين الذرية من الخصومة والتقاطع والتشاتم والمرافعات إلى الحكام بسبب هذه الأوقاف، ولو ترك المال لهم حرا لتمكنوا من الانفصال بعضهم عن بعض ببيع أو غيره، ولو أبعد الوقف عنهم وكان على أعمال بر عامة من مساجد وإصلاح طرق وتعليم علم وطبع كتب نافعة وإطعام مساكين وكسوتهم وإعانة معسر وسقي ماء وغيره من المصالح لكان أنفع للواقف وأبرأ لذمته.
4ـ أن هذا الوقف إن كان بيد ورع تعب منه من النظر عليه وتصريفه ومواجهة مستحقيه وكونهم إن لم يخاصموه نظروا إليه نظرة غضب وكأنه ظالم لهم، أما إن كان بيد جشع أهلكه وأكله.
5ـ أن في هذا الوقف دمارا وإتلافا للأموال، فإن بعض المستحقين له لا يهمهم إصلاحه، وإنما يهمهم أن يستغلوه حتى يستنفذوه، وإن تضرر الوقف وتلف على من بعدهم فيتعلق في ذممهم حتى للواقف وحقوق لمن بعدهم من الموقوف عليهم هذه خمسة مفاسد مع المفسدة الشرعية وهي عصيان لله وعصيان رسوله وتعدي الحدود الشرعية، والمتأمل يجد فيه أكثر من هذا. اهــ.
ولا شك أن هذا القول الذي رجحه الشيخ له قوة ولذا، فإننا لا نرى صحة الوقف الذي أوقفه الشخص المشار إليه طالما أنه أوقفه في مرض موته أو علقه على موته كما يظهر لنا، لأنه وقف على بعض الورثة وهو داخل في الوصية لوارث فلا يمضي شيء منه إلا إذا رضي بقية الورثة المذكورين في السؤال ـ الأم والزوجة، بل والبنات أيضا، لأنه لم يجعل لهن ما جعله لسائر الأبناء ـ وإذا رضي الجميع بإمضائه نفذ الوقف.
ثانيا: إذا نفذ الوقف فالذي يظهر لنا أنه قدم في الوقف سكن المحتاج على تأجير البيت لأنه قال: ... يسكن المحتاج ولا حرج إن كان له ريع يُخرج منه مقدار الخُمس ... إلخ ـ فيقدم ما قدمه الموصي فيسكن فيه المحتاج للسكن من الموصى لهم، فإن لم يوجد محتاج منهم للسكن أجر البيت وعمل بإيجاره ما أوصى به فيخرج خمس الإيجار لنفقة ترميم البيت وصرف الباقي على المحتاج من الموصى لهم.
ثالثا: لفظ الأولاد لغة يشمل الذكر والأنثى, البنين والبنات, ولكن الذي يظهر لنا أنه عنى بالأولاد الذكور، لأنه خص البنات بالذكر وقيد انتفاعهن بالوقف مدة حياتهن فدل على أنه أوقف البيت لأبنائه وما ولدوا وبناته مدة حياتهن فيكون البيت على ذلك.
رابعا: من لم يكن محتاجا لم يدخل في الوصية ولا يجوز لناظر الوقف أن يعطيه بحجة إسكاته، لأنه يجب العمل بشرط الواقف ويرجع في تقدير المحتاج وغير المحتاج إلى ما ذكره الموصي بالنسبة للسكن وما يراه ناظر الوقف بالنسبة لتوزيع الإيجار.
خامسا: يجب سداد الدين الذي على الميت من التركة قبل قسمة التركة، لأن الدين حق مقدم على حق الورثة في المال ولا حرج عليك في السعي بالطرق المباحة من أجل أن يسقط البنك الدين ولا يجوز اتباع الطرق المحرمة لإسقاط الدين بحجة أن الدين من حق الميت على الدولة وأن الثروة لا تقسم بالعدل ونحو هذا الكلام, وأما سداد نصيبك من الدين فهو واجب عليك وتبرأ به ذمتك إذا كنت لا تستطيع إقناع الجميع بما يجب عليهم، ولم تكن لك حيلة لذلك.
سادسا: العمارة التي أوقفها والدكم وقفا منجزا في حياته إن كان أوقفها في حال صحته أو في مرضه غير المخوف فإنها تعتبر وقفا صحيحا ولا يعطى من ريعها غير المحتاج، لأنه ـ كما ذكرنا ـ يجب العمل بشرط الواقف, وما دام والدك أرجع تقدير الحاجة إليك لكونك الناظر فاجتهد في تقديرها ونسأل الله أن يعينك على حمل هذه الأمانة.
سابعا: إذا لم يترك الميت من الورثة إلا من ذكر، فإن لأمه السدس ـ فرضا ـ لوجود الفرع الوارث, قال الله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ {النساء: 11}.
ولزوجته الثمن ـ فرضا ـ لوجود الفرع الوارث, قال الله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ {النساء: 12}.
والباقي للأبناء والبنات ـ تعصيبا ـ للذكر مثل حظ الأنثيين، لقول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {النساء: 11}.
ولا شيء لبقية الورثة المذكورين، لأنهم محجوبون حجب حرمان بالابن, فتقسم التركة على مائتين وأربعين سهما, للأم سدسها, أربعون سهما, وللزوجة ثمنها, ثلاثون سهما, ولكل ابن أربعة وثلاثون سهما, ولكل بنت سبعة عشر سهما.
والله أعلم.