الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الدعاء بأن يكون الرزق قوتا يراد به حصول الكفاف بحيث لا يدعوهم الاحتياج إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول يبعث على الترفه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى ويتسبب في تحقيق هذا فكان يدخر لأهله قوت سنة، كما في الحديث المتفق عليه، وكان ينفق ما زاد على ذلك، قال ابن بطال في شرح حديث: اللهم ارزق آل محمد قوتا ـ قال فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة وإيثارا لما يبقى على ما يفنى فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك، وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا. والله أعلم.
ويدل لهذا ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ.
قال النووي: فيه فضيلة هذه الأوصاف والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان، وقال القرطبي هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال صلى الله عليه و سلم: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ـ أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا، وفيه حجة لمن فضل الكفاف، لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال وقد قال خير الأمور أوساطها. انتهى.
وقال القرطبي في المفهم: جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث الفقر والغنى والكفاف فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله وهي صورة الكفاف التي مات عليها، قال وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء، لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة. انتهى.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: وأما قوله: أغنني من الفقر ـ مع قوله عليه السلام: اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارا شقيا ـ فإن هذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت والكفاف ولا يستقر معه في النفس غنى، لأن الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس ـ وقد جعله الله عز و جل غنيا وعدده عليه فيما عدده من نعمة فقال: ووجدك عائلا فأغنى {الضحى: 8} ولم يكن غناه صلى الله عليه وسلم أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله وكان الغنى كله في قلبه ثقة بربه وسكونا إلى أن الرزق مقسوم يأتيه منه ما قدر له وكذلك قال عليه السلام لعبد الله بن مسعود: يا عبد الله! لا يكثر همك ما يقدر يكن وما يقدر يأتيك ـ وقال: إن روح القدس نفث في روعي فقال لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم ـ فغنى النفس يعين على هذا كله وغنى المؤمن الكفاية وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ـ ولم يرد بهم إلا الذي هو أفضل لهم، وقال: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ـ وقال أبو حازم: إذا كان ما يكفيك لا يغنيك فليس في الدنيا شيء يغنيك ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فقر مسرف وغنى مطغ وفي هذا دليل بين أن الغنى والفقر طرفان وغايتان مذمومتان ... اهـ.
والله أعلم.