الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور صحيح بلا ريب ولا إشكال فيما دل عليه من الأحكام ، فحكمه –كسائر أحكام الشرع- غاية في الحكمة والعدل والرحمة ، ولا يمكن أن يتعارض بحال مع العقل الصحيح أو الفطرة السليمة بل هو موافق لهما ومحقق لمصالح العباد في الدارين على أكمل الوجوه. وحتى يتضح لك الأمر فلابد أن تعلم أن الحديث لا يعني إلحاق النسب بالزوج على كل حال حتى ولو كان حصول الحمل بين الزوجين مستحيلا ، وإنما المراد أن الأصل في المولود على فراش الزوجية أن ينسب للزوج ، أما إذا كان هناك ما يمنع من احتمال حصول الحمل من الزوج فلا يلحق به النسب حينئذ.
قال الشوكاني: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْأَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ إمْكَانِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ.
وقال ابن قدامة : وإذا ولدت امرأة غلام، سنه دون ذلك (عشر سنين)، لم يلحق به، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق به نسب. الكافي في فقه الإمام أحمد.
أما إذا لم يكن هناك مانع من حصول الحمل ولم ينف الزوج الولد باللعان فالولد لاحق به ، وذلك لأن أمر الأنساب خطير وضياع النسب مفسدة عظيمة وبلية كبيرة لا تخفى على عاقل آثارها الاجتماعية والنفسية ، فاحتاط الشرع لإثبات النسب دفعا لتلك المفاسد.
قال ابن قدامة : والحكم بإلحاقه بالزوج والسيد في هذه الصور إنما كان احتياطا للنسب، فإنه يلحق بمجرد الاحتمال وإن كان بعيدا " المغني لابن قدامة.
وعليه فالصورة المذكورة في كلام ابن قدامة (رحمه الله) من لحوق النسب بالزوج وإن غاب عن زوجته عشرين سنة ليس المراد منها إثبات النسب ولو تيقنا من امتناع حصول الجماع بين الزوجين ، وإنما المراد أن لحوق النسب في هذه الحال ممكن لاحتمال أن يكون الزوج قد التقى بامرأته خلال تلك المدة مع كون الزوج لم ينف الولد باللعان، وإذا كان هذا الاحتمال قائما في الأزمان الماضية فقيامه في زماننا أقوى حيث أصبح من اليسير أن يسافر الرجل بالطائرة فيقطع المسافات البعيدة ويرجع في وقت قصير، وأما إذا قطعنا بانتفاء هذا الاحتمال فلا يلحق به الولد، ولذلك قيد بعض الشراح كلام ابن قدامة بإمكان وصول الزوج لزوجته.
قال الرحيباني : وَقَالَ فِي " الْمُبْدِعِ " وَالْمُرَادُ وَيَخْفَى مَسِيرُهُ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي التَّعْلِيقِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ وَفِي الْوَسِيلَةِ " وَ " الِانْتِصَارِ " وَلَوْ أَمْكَنَ وَلَا يَخْفَى السَّيْرُ كَأَمِيرٍ وَتَاجِرٍ كَبِيرٍ وَمَثَّلَ فِي " عُيُونِ الْمَسَائِلِ " بِالسُّلْطَانِ وَالْحَاكِمِ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ مِثْلُهُ لَمْ يُقْضَ بِالْفِرَاشِ وَهُوَ مِثْلُهُ، وَنَقَلَ حَرْبٌ أَوْ غَيْرُهُ فِي وَالٍ وَقَاضٍ لَا يُمْكِنُ يَدَعُ عَمَلَهُ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ لَحِقَهُ. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى.
والله أعلم