الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعنى الآية أن الله تعالى أخذ على الذين ادعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد المؤكد الذي أخذه على بني إسرائيل بأن يتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه، فبدلوا دينهم، وتركوا نصيبا مما ذكروا به، فلم يعملوا به، كما صنع اليهود، فألقي بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب، وسيعاقبهم على صنيعهم.
قال السعدي : وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق، فكذلك أخذنا على { الذين قالوا إنا نصارى } لعيسى ابن مريم، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله وما جاءوا به، فنقضوا العهد، { فنسوا حظا مما ذكروا به } نسيانا علميا، ونسيانا عمليا. { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } أي: سلطنا بعضهم على بعض، وصار بينهم من الشرور والإحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة، وهذا أمر مشاهد، فإن النصارى لم يزالوا ولا يزالون في بغض وعداوة وشقاق. { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } فيعاقبهم عليه. اهـ
قال ابن عاشور في تفسيره: وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقابا في الدنيا جزاء على نكثهم العهد . وأسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحل الدين بين يعاقبة ، وملكانية ، ونسطورية ، وهراتقة ( بروتستانت ) ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدنيا ، كما كان بين ملوك النصرانية ، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم . فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين ؟ فجوابه : أن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا ، كما قدمناه في سورة النساء ( 171 ) عند قوله تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا . ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ، ولم تزل كذلك ، وإنما تألبوا في الحروب الصليبية على المسلمين ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن . وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي ، على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكروا به. اهـ.
والله أعلم.