الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث الأول صحيح، ولفظه كما في صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء. ومعناه كما قال شراح الحديث: بدأ الإسلام غريباً.. أي في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، وسيعود كما بدأ.. أي وسيلحقه النقص والاختلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضاً كما بدأ.
والحديث الثاني صحيح أيضا، ولفظه كما في مسند الإمام أحمد عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر. قال الألباني: رواه جماعة منهم الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ثم قال . فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهارإلى آخر الحديث .
والحديث معناه واضح فالمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: هذا الأمر أي الإسلام ، أي أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار وهي الأرض كلها ، وقوله بعز عزيز إلى آخره أي أن من أسلم يعزه الله ويعز به الإسلام، ومن امتنع أذله الله تعالى بالصغار والجزية ويذل به الكفر، ففي مسند الإمام أحمد عن تميم الداري راوي الحديث : وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، يَقُولُ: " قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ "
وقال الألباني في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد : أن الظهور المذكور في الآية لم يتحقق بتمامه وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ولا يكون التمام إلا بسيطرة الإسلام على جميع الكرة الأرضية، وسيتحقق هذا قطعا لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك . انتهى.
أما وجه الجمع بين معنى الحديثين فما وعد به الله ورسوله من انتشار الإسلام وظهوره كائن لا محالة، فمنه ما حصل بالفعل وما لم يقع فسيحصل لا محالة ، وغربة الإسلام لا تتنافى مع هذا الظهور لأن المراد بها كما ذكر أهل العلم أنها تحصل في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة ثم يظهرالإسلام وينتشر بعد ذلك ، ويحتمل أن المراد بالغربة في قوله صلى الله عليه وسلم . وسيعود غريبا كما بدأ، غربته في آخر الزمان قرب قيام الساعة وانتهاء الدنيا.
ففي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله صلى الله عليه وسلم {ثم يعود غريبا كما بدأ} يحتمل شيئين: أحدهما أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم ثم يظهر كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر. ولهذا قال {سيعود غريبا كما بدأ} . وهو لما بدأ كان غريبا لا يعرف ثم ظهر وعرف فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف. فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا.
ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة. وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة} . وهذا الحديث في الصحيحين ومثله من عدة أوجه. فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا. وقوله صلى الله عليه وسلم {ثم يعود غريبا كما بدأ} أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} . فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر. فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر. فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبا. وفي السنن: {إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} . والتجديد إنما يكون بعد الدروس وذاك هو غربة الإسلام. وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام كما كان الأمر حين بدأ. قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات. انتهى.
والله أعلم.