الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الذي يسأل عنه السائل وإن كان نوعا من الجهاد شأنه شأن كل ما يدخل في إعلاء كلمة الله تعالى، إلا إنه يدخل في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا فقه الجهاد. وهما وإن كان بينهما أوجه للشبه، إلا إن لكل منهما ما يخصه من الأحكام.
وإذا تقرر هذا فضوابط استعمال القوة في إنكار المنكر قد سبق بيانها في الفتوى رقم: 169937 ، وما أحيل عليه فيها.
وأما مسألة الجبن عن القيام بحق الله تعالى بصفة عامة، فله أسباب جبلية، وأسباب مكتسبة، وأصل ذلك: حب الدنيا وكراهية الموت، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) [التوبة].
وقد سبق لنا بيان أن الخوف من الموت نوعان: أولهما: مركوز في طبيعة البشر وهذا غير مذموم لأنه خارج عن نطاق التكليف ولا دخل للإنسان في حصوله. وثانيهما: مذموم وهو الوهن المذكور في الحديث بحيث يكون الإنسان حريصا على البقاء في الدنيا متمتعا بشهواتها وملذاتها غافلا عن الآخرة وما يتعلق بها، وراجع في ذلك الفتويين: 80408، 97322.
وهذا النوع الأخير هو الذي يحتاج إلى معالجة ومجاهدة، وسبيل ذلك قد أشارت إليه الآيات في قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ} قال السعدي: أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها في ذاتها ولذاتها وزمانها، فذاتها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها". ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك، كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقال الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه. وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي: اتقى الشرك وسائر المحرمات. {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملا موفرًا غير منقوص منه شيئًا اهـ.
والله أعلم.