الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يزيدك حرصا على الخير ورغبة فيه، ثم اعلم أن سبيل المحافظة على ما تشعر به أن تعلم أن القلب لا يقف عند حال واحدة أبدا، فإن لم تقبل به على الطاعة وتشغله بما ينفعه اشتغل بضد ذلك، وإن لم تجتهد في الصعود به هبط بك ولا بد، ولا يتم للعبد مقصوده من الاستقامة على الشرع والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة إلا بأمور، فمنها دوام محاسبة النفس والتفكر في عيوبها والحذر من العجب أن يتسلل إلى نفسه فيحبط عمله وهو لا يشعر، فيستحضر العبد تقصيره وتفريطه في جنب ربه، وأن ما يأتي به من الطاعة ليس شيئا بجانب فضل ربه عليه وما يستوجبه منه، وأنه لا نجاة له إلا برحمة الله وأنه لو وكل إلى نفسه لوكل إلى ضعف وعيلة، فيحاسب نفسه كما يحاسب الشريك الخوان، يقول ابن القيم رحمه الله: وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح التى حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح... فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تُذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله. انتهى.
ومنها دوام تذكر الجنة وما أعد الله لأهلها من الكرامة والنار وما أعد لأهلها من الخزي والنكال، فإن الفكرة فيهما من أعظم بواعث الاجتهاد في العبادة والزهادة في الدنيا وفراغ القلب منها، ومنها إدمان الفكرة في حقارة الدنيا وضآلتها وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فيرغب العاقل بنفسه عن أن ينافس فيما هذا شأنه، وينأى عن أن يكون ممن باع آخرته بعرض من الدنيا قليل، يقول ابن القيم: ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا، آلامه تزيد على لذّاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف وآخره متالف، فيا عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكارا عرابا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
ومن هذه الأسباب المعينة على زيادة الإيمان والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة دوام الفكرة في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإنه باب من فتح له وولج منه أشرقت على قلبه أنوار المسرات، يقول ابن القيم: وَهَذِهِ الْعَزَائِمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَشْرَقَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا، وَكَافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ الْيَقِينِ بِهَا. انتهى.
ومنها الاجتهاد في العبادات والأخذ منها بنصيب وافر، فإن الله إنما شرعها لما يحصل للقلب بها من النعيم والراحة ولما له فيها من المصلحة العظيمة، قال العلامة ابن القيم عليه الرحمة: والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه ومن تمام ذلك قيامه هو وجنوده في حضرة معبوده وربه. انتهى.
فإذا استعملت ما مر مع الحذر من الشيطان ومكره والعلم بعداوته الدائمة لجنس الإنسان وأنه لا يكف عن محاربته والحذر كذلك من شياطين الإنس والاجتهاد في الابتهال والتضرع لله سبحانه رجي أن تنال مقصودك من القرب من الله تعالى وتدوم لقلبك لذته بالأنس به وحده والإقبال عليه دون ما سواه، نسأل الله أن يذيقنا وإياك حلاوة الإيمان.
والله أعلم.