الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكرنا في الفتوى رقم: 182857، أن ذكر الشخص بما فيه مما يكره يعتبر غيبة، ويكون ذلك أشد إذا كان عبر وسائل الإعلام، لما فيه من نشر عيوبه وإشاعتها، فقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بقوله: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. رواه مسلم.
ومعنى بهته أي قلت فيه البهتان والكذب.
والسخرية تعتبر من جملة الغيبة المحرمة، فقد قال الإمام الغزالي: الذكر باللسان إنما حُرِّم، لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيكَ، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يُفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام: اغتبتها. اهـ.
وقال الحافظ في الفتح: وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك، وقال الغزالي: حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، وقال ابن الأثير في النهاية: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، وقال النووي في الأذكار تبعاً للغزالي: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقه أو خَلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو وطلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز، قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم: قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة... انتهى.
وقد ذكرنا في بعض الفتاوى السابقة أن من اغتيب شخص بحضرته فلا يجوز له استماع الغيبة وإقرارها والرضى بها، فمن فعل ذلك يعتبر مغتاباً، وإنما يسلم من ذلك بالقيام بما يجب عليه من الإنكار على المغتاب حسب الاستطاعة وعدم الرضى بفعله وعدم مواصلة المجالسة له، كما قال النووي في رياض الصالحين مبوباً على ذلك: باب تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبة محرمة بردها والإنكار على قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه. انتهى.
ثم ذكر رحمه الله عدة أدلة في الموضوع منها حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن...
وقد ذكرنا في الفتوى رقم: 75535، عدم إثم من يسمع الغيبة إذا لم يكن راضياً بالاغتياب ومنكراً له حسب الاستطاعة، فنرجو مراجعتها.
والله أعلم.