الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب هذا السؤال يتبين بمعرفة من هم السلف، فالسلف هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، هذا إن أريد به الحد الزمني لمعنى السلف كما هو ظاهر السؤال.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فإن قيل: ما الحد الفاصل بين السلف والخلف؟ نقول: أولاً: اعلم أن السلف قد يراد به المذهب، وهذا يشمل من أخذ بهذا المذهب إلى يوم القيامة، وليس له حد زمني، فكل من قال بما دل عليه الكتاب والسنة فهو من السلف، وعلى هذا فلا حد له. وأما الحد الزمني: فإن المراد بالسلف هم القرون الثلاثة المفضلة، الصحابة والتابعون وتابعوهم، فهؤلاء هم السلف، ومن بعدهم فهم خلف. انتهى.
فإذا عرفت هذا، فإن الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المعتبر هو انقراض جمهور أهل العصر، وبناء عليه جعل انتهاء القرون الثلاثة تقريبا بأواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، ومعلوم أن دولة بني أمية انقضت من بلاد المشرق وقامت على إثرها دولة بني العباس في عام اثنتين وثلاثين ومائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْقَرْنِ وَهُمْ وَسَطُهُ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ انْقَرَضُوا بِانْقِرَاضِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ. وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَجُمْهُورُ تَابِعِي التَّابِعِينَ انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ؛ وَأَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. انتهى.
ويرى بعض أهل العلم أن زمن القرون الثلاثة المفضلة ينتهي بحدود سنة عشرين ومائتين تقريبا.
قال القاري في المرقاة: وعن عمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي» ) ، أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُونِي وَآمَنُوا بِي، وَهُمْ أَصْحَابِي، ( «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) ، أَيْ يَقْرُبُونَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ، أَوْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ. وَهُمُ التَّابِعُونَ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) ، وَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَتَبَعَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الْمَرْتَبَةُ فِي الْفَضِيلَةِ. فَفِي النِّهَايَةِ: الْقَرْنُ أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُّطِ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاقْتِرَانِ، فَكَأَنَّهُ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَقْتَرِنُ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي أَعْمَارِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مُطْلَقٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَرَنَ يَقْرِنُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِمُدَّةٍ. فَقَرْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمُ الصَّحَابَةُ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُمْ مِنَ الْمَبْعَثِ إِلَى آخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَرْنُ التَّابِعِينَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ، وَقَرْنُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِنْ ثَمَّ إِلَى نَحْوِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا، وَأَطْلَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا، وَرَفَعَتِ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا، وَامْتُحِنَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إِلَى الْآنَ، وَظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ). انتهى.
وإذا علمت هذا، فالواجب على المسلم أن يكون على ما كان عليه أهل هذه القرون المفضلة في العقيدة، والعبادة، والسلوك. فإن في ذلك الخير كله، وفي تركه الشقاء والهلكة.
والله أعلم.