الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها. رواه مسلم. وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بعودة هذا الدين غريبا بعد أن أظهره الله، ولكن مع ذلك يبقى من أتباعه طائفة صالحة مصلحة، قائمة بأمر الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس. رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن، وصححه الألباني. وفي حديث آخر عند الترمذي: فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ. وهذه هي الطائفة المنصورة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. رواه البخاري، ومسلم واللفظ له.
فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، وهذه الطائفة هي التي تقوم بمجموعها أو ببعض أفرادها بأمر تجديد الدين، بإحياء ما اندرس منه، ودعوة الناس إلى العودة إليه والعمل به كاملا كما أنزل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام. اهـ.
وقال المباركفوري في (مرعاة المفاتيح): المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس، أو غير ذلك. اهـ.
وقال المناوي في (فيض القدير): ("أمر دينها" أي ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة. اهـ.
وقال الفيروزآبادي في (عون المعبود): أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم. اهـ.
ومعلوم أن أمر الدين شامل لكل مناحي الحياة، فلا يمكن تجديده بالكلية إلا إن طال هذا التجديد كل المناحي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تقتصر دعوته صلى الله عليه وسلم على ضبط علاقة أتباعه بربهم على مقتضى الوحي، بل ضبط مظاهر الحياة كلها بمنهجه الرباني، حتى صدق عليه وعلى أتباعه من بعده قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام].
وكذلك أمر التجديد يكون في كل النواحي، بإقامة حكم الله في أرض الله، وحفظ حدوده سبحانه، ونشر العلم، وتصحيح العقائد، وضبط السلوك والأخلاق على مقتضى الشريعة، ومجاهدة أعداء الله تعالى بالسنان واللسان، حتى يكون الدين كله لله.
ولا يشترط أن يكون ذلك على يد فرد واحد، بل الظاهر أنه يكون بهذه الطائفة المنصورة.
قال النووي في شرح مسلم: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. اهـ.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد. اهـ.
ولا شك أن من معاني التجديد أن يقيم المجددون حياة الناس على منهاج النبوة، فإن كانت الحياة لا تخلو من وقائع مستجدة، ونوازل مستحدثة، فلابد أن يقوم أمر التجديد على القدرة على الاستنباط من أدلة الشرع وكلياته وعموماته ومقاصده، فيُثبت المجددون للناس صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، ولكل حال يتلبس به الإنسان، فنصوص الشريعة وافية كافية، ولكن نحتاج إلى من يقدر على الاستنباط منها، والأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. اهـ.
واجتهادات البشر على قيمتها وفائدتها لا يمكن أن تأتي على دلالات النصوص الشرعية من كل ناحية، ولذلك تكون الإفادة منها متجددة على مر الأزمان، فما من زمان إلا واستنبط علماؤه واستخرج فقهاؤه فوائد ودلالات جديدة من نصوص الشريعة، وظهر لهم من حِكمها وآثارها ومدلولاتها ما لم يخطر لمن قبلهم على بال !! فكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وهما الكتاب والحكمة ـ منبع متجدد لضبط الفكر الإنساني مع تغير الظروف والأحوال، وهما معين لا ينضب، لمن أحسن التعامل معهما.
وهذا يتناول من جملة ما يتناول علم أصول الفقه، فباب التأصيل والتقعيد المبني على النصوص الشرعية مفتوح لمن امتلك آلته وتأهل له؛ وراجع الفتويين: 2673، 135397.
وأما الحكم على علم مقاصد الشريعة بأنه لم يتطور بعد الشاطبي بشيء يستحق الذكر !! فهذا لا نستطيع أن نقرره، وإن كان الشاطبي من أهم من تناول هذا الموضوع. وراجع في هذا الموضوع كتاب: (البحث في مقاصد الشريعة: نشأته، وتطوره، ومستقبله) للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني.
وهناك عدة أبحاث مفيدة في هذا الباب، منها بحث: (الفقه والتجديد) للدكتور عبد الرحمن الجرعي.
وبحث (مفهوم التجديد الأصولي) لمحمد بن حسين الأنصاري.
وبحث: (أصول الفقه بين الثبات والتجديد) لعدة باحثين: الدكتور عبد الحميد أبو زنيد، والدكتور يوسف الغفيص، والدكتور يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين. وكلها متوفر على الشبكة العنكبوتية.
وكتاب: (معالم تجديد المنهج الفقهي نموذج الشوكاني) للدكتور حليمة بوكروشة. وهو أحد كتب سلسلة كتاب الأمة، وتجده على موقعنا على هذا الرابط:
http://www.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BookId=290&CatId=201
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 99341، 35667، 74655.
ثم إننا ننبه السائل الكريم على أن حكمه على الرسائل الجامعية في الجامعات الإسلامية بأنها لا تفيد بشيء ـ لا يصح هكذا بإطلاق، فكثير من هذه الرسائل تظهر فيها شخصية الباحث، ومنها ما يمثل إضافة حقيقية للمكتبة الإسلامية.
وأما المفارقة المستغربة بين توفر أدوات البحث وقلة العلماء، فهذا يصدقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم. رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد بوب التويجري في (إتحاف الجماعة) باب: (ما جاء في ظهور القلم). أورد فيه هذا الحديث برواياته وأحاديث أخرى وقال: قوله في رواية النسائي: «ويظهر العلم» معناه - والله أعلم -: ظهور وسائل العلم، وهي كتبه، وقد ظهرت في هذه الأزمان ظهورًا باهرًا، وانتشرت في جميع أرجاء الأرض، ومع هذا؛ فقد ظهر الجهل في الناس، وقل فيهم العلم النافع، وهو علم الكتاب والسنة والعمل بهما، ولم تغن عنهم كثرة الكتب شيئًا ... اهـ.
والله أعلم.