الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقرآن الكريم كله مكتوب في اللوح المحفوظ ومستنسخ منه، قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {البروج: 21ـ22}.
وقال عز وجل: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ {الواقعة: 77ـ 78}.
وقال سبحانه: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ {الزخرف: 4}.
قال ابن كثير: وإنه أي: القرآن في أم الكتاب أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس ومجاهد. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 2658.
وهذا يدخل فيه المنسوخ كما يدخل فيه الناسخ، فكلاهما مسطور في اللوح المحفوظ، قال تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {الرعد:38ـ 39}.
روى الطبري عن ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ـ قال: من القرآن، يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله: وعنده أم الكتاب ـ يقول: وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كلُّ ذلك في كتاب. اهـ.
وفي تفسير مقاتل بن سليمان: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ـ يقول: لا ينزل من السماء كتاب إلا بأجل: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ـ يقول: ينسخ الله ما يشاء من القرآن: وَيُثْبِتُ ـ يقول: ويقر من حكم الناسخ ما يشاء فلا ينسخه: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ـ يعني أصل الكتاب، يقول: الناسخ من الكتاب والمنسوخ، فهو في أم الكتاب، يعني بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، يعني أصل الكتاب، يقول: الناسخ من الكتاب والمنسوخ فهو في أم الكتاب، يعني بأم الكتاب اللوح المحفوظ. اهـ.
ونسب ابن الجوزي في زاد المسير القول بتفسير الذي يمحو الله ويثبت بأنه الناسخ والمنسوخ ـ إلى ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وابن قتيبة.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 139629.
ومما يدل على ذلك دلالة واضحة أن بعض المنسوخ قد نسخ حكماً وبقي تلاوة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ {البقرة: 240}.
وراجع الفتوى رقم: 13919.
وهذا لا شك في أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، مع كون حكمه منسوخاً، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ {آل عمران: 7}.
قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن جرير من طريق السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة بن مسعود وناس من الصحابة: محكمات الناسخات التي يعمل بهن متشابهات المنسوخات. اهـ.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدي ـ صاحب كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ: معلوم أن ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، كما قال: في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. اهـ. نقل ذلك عنه: الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، ومرعي الكرمي في قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن.
وقد سبق لنا التنبيه على أن الناسخ والمنسوخ كلاهما في اللوح المحفوظ، وذلك في الفتوى رقم: 128228.
وأما مصحف أبي بن كعب: فهو كغيره من المصاحف المنسوبة للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولإيضاح أمرها ننقل ما ذكره الدكتور إبراهيم الجرمي في كتاب معجم علوم القرآن تحت عنوان مصاحف الصحابة حيث قال: هي مصاحف فردية كتبها بعض الصحابة لأنفسهم، لم يتوخوا فيها مطابقتها لما ثبت في العرضة الأخيرة، ولذا خالفت هذه المصاحف الفردية المصحف الإمام الذي أجمعت عليه الأمة كلها، وخلاف هذه المصاحف الخاصة مع مصاحف عثمان بالزيادة أو بالنقص أو بالتقديم والتأخير، وأغلب الظن أن القراءات الشاذة غير المقروء بها مردها إلى هذه المصاحف الخاصة التي لم تقم جماعة المسلمين بضبطها وتحريرها، ولقد اتحدت كلمة المسلمين على عدم القراءة بما تضمنتها هذه المصاحف، بل إن المسلمين لم يعنوا بها فتيلا، ولذا امحت آثارها ودرست ولم يبق منها شيء اللهم إلا بعض مرويات في كتب المصاحف وبعض كتب الحديث والتفسير. اهـ.
وقال الدكتور محمد أبو شهبة في المدخل لدراسة القرآن الكريم في رد شبهة دعوى نقص القرآن بحجة ما في مصحف أبي من سورتي الخلع والحفد، قال: لا نسلّم أنهما من القرآن، وكتابة أبي بن كعب لهذا الدعاء في مصحفه لا يدل على القرآنية، ونحن نعلم أن مصاحف الصحابة لم تكن قاصرة على المتواتر، بل كان بعضها مشتملا على الآحادي، والمنسوخ تلاوة، وعلى بعض تفسيرات وتأويلات وأدعية ومأثورات، ومن ذلك هذا الدعاء الذي يقنت به بعض الأئمة في الوتر، ووجوده في مصحف أبيّ لا يدل على أنه قرآن، كما أن القنوت به في الصلاة لا يدل على القرآنية، ولا يشك ذو نظر فاحص وذوق أدبي أن هذا الدعاء ليس عليه مسحة من سحر القرآن وبلاغته وإعجازه وإشراقه، مما يلقي بهذه الشبهة في غيابة الإهمال.
2ـ على فرض أن أبيّا أثبتها في المصحف على أنها قرآن فهي رواية آحادية ظنية لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، كما أنها لا تكفي في إثبات كونها من القرآن، لأن المعول عليه في ثبوت القرآن التواتر، وهنا قاعدتان ينبغي التنبه إليهما في رد كل رواية تفيد زيادة شيء في القرآن، أو نقص شيء منه وهما:
1ـ كل رواية آحادية لا تقبل في إثبات شيء من القرآن.
2ـ كل رواية آحادية تخالف المتواتر من القرآن لا تقبل، ويضرب بها عرض الحائط. اهـ.
وأما ادعاء أن أبياً كان يتعبد بما في مصحفه حتى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه دعوى تحتاج إلى برهان!! ومن المعروف أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان قد أمر أبيَّاً أن يؤم الناس في صلاة التراويح في خلافته، ولا يمكن أن يكون قرأ بهم بغير المتواتر الذي أثبت لاحقا في المصحف الإمام!!.
والله أعلم.