الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا المعنى المذكور صحيح، وهو من جملة اللطائف المستفادة من تأمل المعوذتين وتدبرهما، فدليله: تدبر القرآن !
وقد حام حول هذا المعنى طائفة من المفسرين، منهم البقاعي في (نظم الدرر) حيث يقول: لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق، والساحر، والحاسد، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير، والمعايب الداخلة التي ترجع إلى ظلم النفس، ولكنها في المصائب أظهر، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص، وهو الوسواس، وهو أخص من مطلق الحاسد، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهي من الجن أمكن وأضر، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب. اهـ.
وقال الشيخ عطية سالم في (تتمة أضواء البيان): المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان، وتأتيه اعتداء عليه من غيره، وقد تكون شرورا ظاهرة، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه، وتجنبه إذا علم به. بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته، وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه، إذ الشيطان يرانا ولا نراه. اهـ.
وكذلك الحكم بأن الشرور الداخلية أشد من الخارجية هو من جملة اللطائف المستنبطة من السورتين، وإلى ذلك يشير قول أبي حيان في (البحر المحيط): لما كانت مضرة الدين، وهي آفة الوسوسة، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث: الرب، والملك، والإله، وإن اتحد المطلوب. وفي الاستعاذة من ثلاث: الغاسق، والنفاثات، والحاسد بصفة واحدة وهي الرب، وإن تكثر الذي يستعاذ منه. اهـ.
ونقل ذلك الشيخ عطية ثم قال: هذه الأخرى لفتة كريمة ... وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي «برب الفلق»، وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث. اهـ.
والله أعلم.