الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الكلام عزاه البيهقي للشافعي, وهذا هو الشائع فيه, وعزاه البعض لجعفر الصادق, والبعض للحسن, ولا يصح مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقد قال السخاوي في المقاصد الحسنة: حديث (من استرضي فلم يرض فهو شيطان) ليس في المرفوع, وإنما هو فيما أورده البيهقي في الشعب من جهة جعفر بن محمد الصادق قال: من لم يغضب عند التقصير لم يكن له شكر عند المعروف. ومن طريق الربيع, وفي مناقب الشافعي من جهة أحمد بن سنان, كلاهما عن الشافعي من قوله بزيادة: ومن استغضب ولم يغضب فهو حمار.
وأما عن معناه: فلا يصح مدح الغضب على إطلاقه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى عن الغضب، ويحث على الصبر، ففي صحيح البخاري وغيره أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب.
وقال في حديث آخر صحيح: ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: لا تغضب، خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع، ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه, فينتقص ذلك من الدين. انتهى.
وهناك بعض الغضب المحمود, مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى, وعلى هذا يحمل قول الشافعي - رحمه الله تعالى - إن ثبت عنه, فقد قال الهيتمي في الزواجر: قوة الغضب محلها القلب, ومعناها: غليان دمه لطلب الانتقام, وهذه القوة إنما تتوجه عند ثورانها إلى دفع مؤذ قبل وقوعه, أو التشفي والانتقام بعده, فالانتقام هو لذتها وممسكها, ثم إن التفريط فيها بانعدامها أو ضعفها مذموم جدًّا لانعدام الحمية والغيرة حينئذ, ومن لا غيرة له ولا مروءة لا يتأهل لشيء من أنواع الكمال بوجه من الوجوه؛ لأنه بالنساء - بل بحشرات الحيوان - أشبه, وهذا هو معنى قول الشافعي - رضي الله عنه -: من استغضب فلم يغضب فهو حمار, ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان, وقد وصف الله تعالى الصحابة - رضوان الله عليهم - بالشدة والحمية, فقال تعالى: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" "أشداء على الكفار رحماء بينهم" "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" وثمرة التفريط في ذلك قلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم - كالأخت والزوجة - واحتمال الذل من الأخساء, وصغر النفس, وهذه كلها قبائح ومذام, ولو لم يكن من ثمراتها إلا قلة الغيرة وخنوثة الطبع, وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من غيرة سعد! أنا أغير منه, والله أغير مني, ومن غيرته أن حرم الفواحش} ...
وأما الإفراط في تلك القوة فهو مذموم جدًّا أيضًا, وذلك بأن يغلب عليه حتى يخرج عن سياسة العقل والدين, ولا يبقى له معها فكر ولا بصيرة ولا اختيار, بل يصير في صورة المضطر: إما لأمور خلقية, أو عادية, أو مركبة منهما: بأن تكون فطرته مستعدة لسرعة الغضب, أو يخالط من يتبجح به ويعده كمالًا وشجاعة؛ حتى ترسخ مدحه عنده, ومهما اشتدت نار الغضب واشتعلت أعمت صاحبه وأصمته عن كل موعظة, بل لا تزيده الموعظة إلا اشتعالًا؛ لانطفاء نور عقله ومحوه حالًا بدخان الغضب الصاعد إلى الدماغ الذي هو معدن الفكر, وبما يتعدى إلى معادن الحس; فيظلم بصره حتى لا يرى شيئًا إلا سوادًا, بل ربما زاد اشتعال ناره حتى تفنى رطوبة القلب التي بها حياته فيموت صاحبه غيظًا . ...
وأما الكمال المطلق: فهو اعتدال تلك القوة بأن لم يكن فيها تفريط ولا إفراط, وإنما تكون طوع العقل والدين, فتنبعث حيث وجبت الحمية, وتنطفئ حيث حسن الحلم, وهذا هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده, والوسط الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {خير الأمور أوسطها}, فمن أفرط أو فرط فليعالج نفسه إلى وصولها إلى هذا الصراط المستقيم أو إلى القرب, قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} ولا ينبغي لمن عجز عن الإتيان بالخير كله أن يأتي بالشر كله، فإن بعض الشر أهون من بعض, وبعض الخير أرفع من بعض, والله تعالى من فضله يعطي كل عامل ما أمله, وييسر له ما توجه إليه وأم له.
ومنها: محل ذم الغضب إن كان بباطل, وإلا فهو محمود, ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا لله, أخرج الشيخان: {أن رجلًا قال: يا رسول الله, إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل, فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب في موعظته يومئذ, فقال: يا أيها الناس, إن منكم منفرين, فأيكم أم الناس فليوجز, فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة}, قالت عائشة: {قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر, وقد سترت سهوة لي - أي صفة - بين يدي البيت بقرام - أي: ستر رقيق - فيه تماثيل, فلما رآه صلى الله عليه وسلم هتكه - أي: أفسد الصورة التي فيها ورماه بيده - وقال: يا عائشة, أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله - عز وجل -}, قال أنس: {رأى صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه الغضب, فقام فحكها بيده, وقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه, أو قال: إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل القبلة, ولكن عن يساره أو تحت قدمه أو في غير المسجد, ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال: أو يفعل هكذا}. اهـ
وأما الرضى على المسترضي فهو ممدوح, وقد قدمنا الحض عليه في الفتوى رقم: 53141.
والله أعلم.