الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فراجع في تأليههم مريم ـ عليها السلام ـ وفي المقصودين بالآية الفتويين التاليتين: 11524، 193741.
وأما إبطال ألوهية ما سوى الله تعالى: فيدل له قول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {محمد:19}.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم: من قال لا إله الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله.
كما يدل له من الناحية النقلية والعقلية أنه لو وجد مع الله تعالى آلهة أخرى لترتب على ذلك اختلال نظام الكون حيث سينفرد كل واحد منهم بما خلق، ومن نظر إلى نظام الكون البديع وجده منتظم الصنعة، بديع النظام، صادرا عن إله واحد لا إله إلا هو العلي الكبير، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {الأنبياء:22}.
قال القرطبي: والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها.
وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا.
وقيل معنى: لفسدتا: أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء.
وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {المؤمنون:91}.
قال ابن كثير: أي لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي، مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ{الملك: 3} ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض. اهـ.
ويؤكد بطلان تأليههم لعيسى ـ عليه السلام ـ ما جاء في القرآن من تكفير الله تعالى لمن أله عيسى, قال الله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {المائدة:72ـ73ـ74}.
قال السعدي: يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ـ بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ـ فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ـ أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ـ وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له ـ وهو العبادة الخالصة ـ لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ـ ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ـ وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ـ وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى رادا عليهم وعلى أشباههم: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ـ متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه، فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم توعدهم بقوله: وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ـ ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ـ أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه: وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ـ عن ما صدر منهم: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات، وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ـ ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ـ أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية: وَأُمَّهُ ـ مريم: صِدِّيقَةٌ ـ أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء، والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين والعمل الصالح، وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا، وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ـ فإذا كان عيسى ـ عليه السلام ـ من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ـ دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد، ولما بين تعالى البرهان قال: انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ـ الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم. اهـ.
هذا، وننبه إلى ضرورة العلم بحقيقة التوحيد فهو أوجب ما فرض الله تعلمه واليقين به, وقد أجاد الشيخ السعدي في تفسيره في بيان كيفية تحقيق ذلك فقال ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لقول الله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ـ العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه، وهذا العلم الذي أمر الله به ـ وهو العلم بتوحيد الله ـ فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك، والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور:
أحدها، بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته، فإنها توجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به فإن هذا داع إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ورأيا وصوابا، وعلما ـ وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون ـ قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد ـ على تكرر الباطل والشبه ـ إلا نموا وكمالا.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير ـ وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته ـ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره. اهـ.
وراجع للمزيد في الموضوع وفي بيان بطلان النصرانية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم، وإظهار الحق للشيخ رحمة الله الهندي، ومحاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة، ومقارنة الأديان للشيخ أحمد شلبي، وقذائف الحق للشيخ محمد الغزالي، وكتاب دراسات في اليهودية والنصرانية للدكتورمحمد ضياء الرحمن الأعظمي.
والله أعلم.