الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالخواطر والأفكار الخاطئة التي تهجم على الإنسان دون اختياره، لا يؤاخذ عليها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم. وفي رواية أخرى: ما حدثت به أنفسها. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر: المراد نفي الحرج عما يقع في النفس حتى يقع العمل بالجوارح، أو القول باللسان على وفق ذلك، والمراد بالوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن يطمئن إليه ويستقر عنده. اهـ.
ثم إنه إذا كرهها واستعاذ بالله منها، كان ذلك دليلا على صحة إيمانه، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا، وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ.
وراجعي الفتوى رقم: 7950.
وقول السائلة: (أتمنى أن أعبد الله وليس لدنيا وآخرة، وجنة وخوف نار .. ومنذ أن قررت السعى إلى ذلك نشأت هذه الخواطر عن العبودية ..)
يبين بداية الخطأ، فمهوم العبودية، وماهية الجنة والنار، لم تدرك السائلة حقيقتها.
قال ابن القيم في (مدارج السالكين): والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور. وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة. فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه. فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا. فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك. كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] . وأتى به منكرا في سياق الإثبات؛ أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة.
قليل منك يقنعني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل.
وفي الحديث الصحيح - حديث الرؤية - «فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه» ... ولا ريب أن الأمر هكذا. وهو أجل مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحب ... فأي نعيم، وأي لذة، وأي قرة عين، وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها، وقرة العين بها؟ وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب، الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل ولا أجمل: قرة عين البتة؟ وهذا - والله - هو العلم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون. وهو روح مسمى الجنة وحياتها. وبه طابت الجنة، وعليه قامت. فكيف يقال: لا يعبد الله طلبا لجنته، ولا خوفا من ناره؟ وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، وإهانته، وغضبه وسخطه، والبعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم، بل التهاب هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم، ومنها سرت إليها. فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين، والشهداء والصالحين هو الجنة. ومهربهم من النار. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أهمية الجمع بين المحبة، والخوف، والرجاء في أداء حق العبودية لله رب العالمين، وذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 21032، 33728، 65393، 162635، 126552.
وأما بخصوص الأمثلة التي ذكرتها السائلة، فهي توضح أنها تحتاج إلى أن تطلب العلم بطريقة منهجية منظمة، وتتدرج فيه مع الوقت لتستطيع أن تدفع عن نفسها الشبهات ! فالاستغفار مثلا عندما تقول عنه السائلة: (إن لم يكن هناك ذنب ظاهر أقول باللسان فقط) فهذا يدل على حاجتها للعلم بحقيقة الذنوب الباطنة والظاهرة، وأن ذلك للإنسان كالأمر الحتم، ثم العلم بعظم حق الله تعالى، لتعلم أن المرء لا ينفك أبدا عن حاجته للاستغفار والتوبة بقلبه قبل لسانه، حتى عقب أداء العبادات الكبار؛ وراجعي في ذلك الفتويين: 39154، 144541.
وكذلك الخطأ في مفهوم الحمد، وعدم رؤية بعض الأشياء نعمة لكونها ضرورية لوجود الحياة !! فهذه مغالطة كبيرة، فمجرد الإيجاد نعمة تستحق الشكر، فضلا عن الإمداد بأسباب بقائها، على أن نعم الله تعالى علينا ـ في الخاصة والعامة ـ أكثر من أن تحصى، وأكبر من أن نؤدي كامل شكرها، فلا يجد المؤمن أي عناء في انطلاق لسانه بالحمد لله على كل حال، وفي أي وقت، فما بالنا إذا علمنا بأن الله تعالى يثيب الحامد ثوابا يتعاظم على حمد عبده، ويجلُّ عن مثامنة عمله !
وعلى أية حال، فما دامت السائلة قد ذكرت عن نفسها أن الأسئلة تأتيها بكثرة عندما تجد إجابة على سؤال سابق، فالأمثل أن لا تسترسل مع ذلك، وتبدأ في طلب العلم من غير ورود أسئلة على بالها أصلا.
وهنا ننبه على أن التفكير الوسواسي لا يستطيع صاحبه التوقف عن الأفكار السخيفة التي تعرض له، رغم إيمانه بأنها خاطئة، ومحاولته المستمرة في التوقف عنها، وهذا لا شك معفو عنه، بل هو مأجور على مجاهدته لهذه الوساوس.
وراجعي في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 60628، 3086، 134765.
والله أعلم.